الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 2 ) قوله تعالى: ولا القلائد : ولا ذوات القلائد، ويجوز أن يكون المراد: القلائد حقيقة، ويكون فيه مبالغة في النهي عن التعرض للهدي المقلد، فإنه إذا نهى عن قلادته أن يتعرض لها، فبطريق الأولى أن ينهى عن التعرض للهدي المقلد بها، وهذا كما قال تعالى: ولا يبدين زينتهن ؛ لأنه إذا نهى عن إظهار الزينة، فما بالك بمواضعها من الأعضاء. وقوله: "ولا آمين"؛ أي: ولا تحلوا قوما آمين، ويجوز أن يكون على حذف مضاف؛ أي: لا تحلوا قتال قوم أو أذى قوم آمين. وقرأ عبد الله ومن تبعه: "ولا آمي البيت" بحذف [ ص: 187 ] النون وإضافة اسم الفاعل إلى معموله. و "البيت" نصب على المفعول به بـ "آمين"؛ أي: قاصدين البيت، وليس ظرفا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "يبتغون" حال من الضمير في "آمين"؛ أي: حال كون الآمين مبتغين فضلا، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة صفة لـ "آمين"؛ لأن اسم الفاعل متى وصف بطل عمله على الصحيح، وخالف الكوفيون في ذلك، وأعرب مكي هذه الجملة صفة لـ "آمين"، وليس بجيد لما تقدم، وكأنه تبع في ذلك الكوفيين. وهنا سؤال: وهو أنه لم لا قيل بجواز إعماله قبل وصفه كما في هذه الآية قياسا على المصدر، فإنه يعمل قبل أن يوصف، نحو: يعجبني ضرب زيدا شديد ؟ والجمهور على "يبتغون" بتاء الخطاب على أنه خطاب للمؤمنين، وهي قلقة لقوله: "من ربهم"، ولو أريد خطاب المؤمنين لكان تمام المناسبة: "تبتغون فضلا من ربكم". و "من ربهم" يجوز أن يتعلق بنفس الفعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ "فضلا"؛ أي: فضلا كائنا من ربهم. وقد تقدم الخلاف في ضم راء "رضوان" في آل عمران. وإذا علقنا "من ربهم" بمحذوف على أنه صفة لـ "فضلا"، فيكون قد حذف صفة "رضوان" لدلالة ما قبله عليه؛ أي: ورضوانا من ربهم، وإذا علقناه بنفس الفعل، لم يحتج إلى ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وإذا حللتم فاصطادوا قرئ: "أحللتم"، وهي لغة في "حل"، [ ص: 188 ] ويقال: أحل من إحرامه، كما يقال: حل. وقرأ الحسن بن عمران، وأبو واقد، ونبيح، والجراح بكسر الفاء العاطفة، وهي قراءة ضعيفة مشكلة، وخرجها الزمخشري على أن الكسر في الفاء بدل من كسر الهمزة في الابتداء. وقال ابن عطية: هي قراءة مشكلة، ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذا ابتدأ، فكسر الفاء مراعاة وتذكرا لكسر ألف الوصل. وقال الشيخ: وليس عندي هو كسرا محضا، بل هو إمالة محضة؛ لتوهم وجود كسرة همزة الوصل، كما أمالوا فاء "فإذا" لوجود كسر الهمزة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولا يجرمنكم" قرأ الجمهور: "يجرمنكم" بفتح الياء من "جرم" ثلاثيا، ومعنى "جرم" عند الكسائي وثعلب: حمل، يقال: جرمه على كذا؛ أي: حمله عليه، فعلى هذا التفسير يتعدى "جرم" لواحد، وهو الكاف والميم، ويكون قوله: "أن تعتدوا" على إسقاط حرف الخفض وهو "على"؛ أي: ولا يحملنكم بعضكم لقوم على اعتدائكم عليهم، فيجيء في محل "أن" الخلاف المشهور، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة. ومعناه عند أبي عبيد والفراء : كسب، ومنه: فلان جريمة أهله؛ أي: كاسبهم، وعن [ ص: 189 ] الكسائي أيضا: أن جرم وأجرم بمعنى: كسب غيره، وعلى هذا فيحتمل وجهين، أحدهما: أنه متعد لواحد. والثاني: أنه متعد لاثنين، كما أن "كسب" كذلك، وأما في الآية الكريمة فلا يكون إلا متعديا لاثنين أولهما ضمير الخطاب. الثاني: "أن تعتدوا"؛ أي: لا يكسبنكم بغضكم لقوم الاعتداء عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الله: "يجرمنكم" بضم الياء من "أجرم" رباعيا، وقيل: هو بمعنى جرم، كما تقدم نقله عن الكسائي، وقيل: "أجرم" منقول من "جرم" بهمزة التعدية. قال الزمخشري: جرم يجري مجرى كسب في تعديته إلى مفعول واحد وإلى اثنين، تقول: جرم ذنبا، نحو: كسبه، وجرمته ذنبا؛ أي: كسبته إياه، ويقال: أجرمته ذنبا، على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولك: أكسبته ذنبا، وعليه قراءة عبد الله: "ولا يجرمنكم"، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين، والثاني: "أن تعتدوا". انتهى. وأصل هذه المادة: - كما قال ابن عيسى الرماني - القطع، فجرم: حمل على الشيء؛ لقطعه عن غيره، وجرم: "كسب" لانقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى: "حق"؛ لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل: لا جرم أن لهم النار ؛ أي: لقد حق، هكذا قاله الرماني، فجعل بين هذه الألفاظ قدرا مشتركا، وليس عنده من باب الاشتراك اللفظي.

                                                                                                                                                                                                                                      و "شنان": معناه بغض، وهو مصدر شنئ؛ أي: أبغض. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: "شنآن" بسكون النون، والباقون بفتحها، وجوزوا في كل [ ص: 190 ] منهما أن يكون مصدرا وأن يكون وصفا، حتى يحكى عن أبي علي أنه قال: من زعم أن "فعلان" إذا سكنت عينه لم يكن مصدرا، فقد أخطأ، إلا أن فعلان بسكون العين قليل في المصادر، نحو: لويته دينه ليانا، بل هو كثير في الصفات، نحو: سكران وبابه، وفعلان بالفتح قليل في الصفات، قالوا: حمار قطوان؛ أي: عسر السير، وتيس عدوان، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1688 - ... ... ... ... كتيس ظباء الحلب العدوان



                                                                                                                                                                                                                                      ومثله قول الآخر: - أنشده أبو زيد -


                                                                                                                                                                                                                                      1689 - وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي     وفقأت عين الأشوس الأبيان

                                                                                                                                                                                                                                      بفتح الباء والياء، بل الكثير أن يكون مصدرا، نحو: الغليان والنزوان، فإن أريد بالشنآن الساكن العين الوصف، فالمعنى: ولا يجرمنكم بغيض قوم، وبغيض بمعنى مبغض، اسم فاعل من أبغض، وهو متعد، ففعيل بمعنى الفاعل، كقدير ونصير، وإضافته لقوم على هذا إضافة بيان؛ أي: إن البغيض من بينهم، وليس مضافا لفاعل ولا مفعول، بخلاف ما إذا قدرته مصدرا، فإنه يكون مضافا إلى مفعوله أو فاعله كما سيأتي. وقال صاحب هذا القول: يقال: رجل شنآن، وامرأة شنآنة، كندمان وندمانة، وقياس هذا أن [ ص: 191 ] يكون من فعل متعد، وحكى: رجل شنآن، وامرأة شنأى، كسكران وسكرى، وقياس هذا أن يكون من فعل لازم، ولا بعد في ذلك، فإنهم قد يشتقون من مادة واحدة، القاصر والمتعدي، قالوا: فغرت فاه، وفغر فوه؛ أي: فتحه فانفتح، وإن أريد به المصدر فواضح، ويكون مضافا إلى مفعوله؛ أي: بغضكم لقوم، فحذف الفاعل، ويجوز أن يكون مضافا إلى فاعله؛ أي: بغض قوم إياكم، فحذف مفعوله، والأول أظهر في المعنى، وحكم "شنآن" بفتح النون مصدرا، وصفة حكم الساكنها، وقد تقدم تقرير ذلك، ومن مجيء "شنآن" الساكن العين مصدرا قول الأحوص:


                                                                                                                                                                                                                                      1690 - وما الحب إلا ما تلذ وتشتهي     وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

                                                                                                                                                                                                                                      أراد: "الشنآن" بسكون النون، فنقل حركة الهمزة إلى النون الساكنة، وحذف الهمزة، ولولا سكون النون لما جاز النقل، ولو قال قائل: إن الأصل "الشنآن" بفتح النون، وخفف الهمزة بحذفها رأسا، كما قرئ: "إنها حدى الكبر" بحذف همزة "إحدى"، لكان قولا يسقط به الدليل لاحتماله. و "الشنآن" بالفتح مما شذ عن القاعدة الكلية، قال سيبويه: كل بناء من المصادر على وزن فعلان بفتح العين لم يتعد فعله، إلا أن يشذ شيء كالشنآن، يعني: أنه مصدر على فعلان بالفتح، ومع ذلك فعله متعد، وفعله أكثر الأفعال مصادر، سمع له ستة عشر مصدرا، قالوا: شنئ يشنأ شنئا وشنآنا، مثلثي الشين، فهذه ست [ ص: 192 ] لغات. وقرأ ابن وثاب، والحسن، والوليد، عن يعقوب: "يجرمنكم" بسكون النون، جعلوها نون التوكيد الخفيفة، والنهي في لفظ للشنآن، وهو في المعنى للمخاطبين، نحو: لا أرينك ههنا، و ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، قاله مكي.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: "أن صدوكم" قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر "إن"، والباقون بفتحها، فمن كسر فعلى أنها شرطية، والفتح على أنها علة للشنآن؛ أي: لا يكسبنكم - أو لا يحملنكم - بغضكم لقوم لأجل صدهم إياكم عن المسجد الحرام، وهي قراءة واضحة. وقد استشكل الناس قراءة الأبوين من حيث إن الشرط يقتضي أن الأمر المشروط لم يقع، والغرض أن صدهم عن البيت الحرام كان وقد وقع، ونزول هذه الآية متأخر عنه بمدة، فإن الصد وقع عام الحديبية وهي سنة ست، والآية نزلت سنة ثمان، وأيضا فإن مكة كانت عام الفتح في أيديهم، فكيف يصدون عنها ؟ قال ابن جريج، والنحاس، وغيرهما: هذه القراءة منكرة، واحتجوا بما تقدم من الإشكال، ولا إشكال في ذلك. فالجواب عما قالوه من وجهين، أحدهما: أنا لا نسلم أن الصد كان قبل نزول الآية، فإن نزولها عام الفتح ليس مجمعا عليه. وذكر اليزيدي أنها نزلت قبل [ ص: 193 ] الصد، فصار الصد أمرا منتظرا، والثاني: أنه وإن سلمنا أن الصد كان متقدما على نزولها، فيكون المعنى: إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع زمن الحديبية - أو يستديموا ذلك الصد الذي وقع منهم - فلا يجرمنكم، قال مكي: ومثله عند سيبويه قول الشاعر - وهو الفرزدق -:


                                                                                                                                                                                                                                      1691 - أتغضب إن أذنا قتيبة حزنا      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وذلك شيء قد كان ووقع، وإنما معناه: إن وقع مثل ذلك الغضب، وجواب الشرط ما قبله، يعني: وجواب الشرط دل عليه ما قبله؛ لأن البصريين يمنعون تقديم الجواب إلا أبا زيد. وقال مكي أيضا: ونظير ذلك أن يقول رجل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، بكسر "إن"، لم تطلق عليه بدخولها الأول؛ لأنه أمر ينتظر، ولو فتح لطلقت عليه؛ لأنه أمر كان ووقع، ففتح "أن" لما هو علة لما كان ووقع، وكسرها إنما هو لأمر ينتظر، والوجهان حسنان على معنييهما، وهذا الذي قاله مكي فصل فيه الفقهاء بين من يعرف النحو وبين من لا يعرفه. ويؤيد قراءة الأبوين قراءة عبد الله بن مسعود: "إن يصدوكم"، قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هارون، قال: قرأ ابن مسعود فذكرها، قال: وهذا لا يكون إلا على استئناف الصد، يعني: إن وقع صد آخر مثل ما تقدم عام الحديبية.

                                                                                                                                                                                                                                      ونظم هذه الآيات على ما هي عليه من أبلغ ما يكون وأفصحه، وليس فيها تقديم ولا تأخير كما زعم بعضهم، فقال: أصل تركيب الآية الأولى: [ ص: 194 ] "غير محلي الصيد وأنتم حرم فإذا حللتم فاصطادوا"، وأصل تركيب الثانية: "ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ولا يجرمنكم"، ونظره بآية البقرة، يعني: "إن الله يأمركم"، وهذا لا حاجة إليه مع أن التقديم والتأخير عند الجمهور من ضرائر الشعر، فيجب تنزيه القرآن عنه، وليست الجملة أيضا من قوله: "وإذا حللتم فاصطادوا" معترضة بين قوله: "ولا آمين البيت الحرام"، وبين قوله: "ولا يجرمنكم"، بل هي مؤسسة ومنشئة حكما، وهو حل الاصطياد عند التحلل من الإحرام، والجملة المعترضة إنما تفيد توكيدا وتسديدا، وهذه مفيدة حكما جديدا كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "أن تعتدوا" قد تقدم أنه من متعلقات "لا يجرمنكم" على أنه مفعول ثان، أو على حذف حرف الجر، فمن كسر "إن صدوكم" يكون الشرط وجوابه المقدر في محل جر صفة لـ "قوم"؛ أي: شنآن قوم هذه صفتهم، ومن فتحها فمحلها الجر أو النصب؛ لأنها على حذف لام العلة كما تقدم. قال الزمخشري: والمعنى: ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه. قال الشيخ: وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب؛ لأنه يمتنع أن يكون مدلول "جرم" حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما، فيمتنع أن يكون "[ أن ] تعتدوا" في محل مفعول به، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر. وهذا الذي قال لا يتصور أن يتوهمه من له أدنى بصر بالصناعة حتى ينبه عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم قراءة البزي في نحو: "ولا تعاونوا"، وأن الأصل: "تعاونوا"، [ ص: 195 ] فأدغم، وحذف الباقون إحدى التاءين عند قوله تعالى: ولا تيمموا الخبيث .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية