الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 54 ) قوله تعالى وإذا جاءك "إذا" منصوب بجوابه؛ أي: فقل: سلام عليكم وقت مجيئهم؛ أي: أوقع هذا القول كله في وقت مجيئهم إليك، وهذا معنى واضح. وقال أبو البقاء : "العامل في "إذا" معنى الجواب؛ [ ص: 649 ] أي: إذا جاؤوك سلم عليهم". ولا حاجة تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى؛ لأن كونه يبلغهم السلام والإخبار بأنه كتب على نفسه الرحمة، وأنه من عمل سوءا بجهالة غفر له، لا يقوم مقامه السلام فقط، وتقديره يفضي إلى ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "سلام" مبتدأ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأنه دعاء، والدعاء من المسوغات. وقال أبو البقاء : "لما فيه من معنى الفعل"، وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين، إنما هو شيء نقل عن الأخفش: أنه إذا كانت النكرة في معنى الفعل، جاز الابتداء بها ورفعها الفاعل، وذلك نحو: قائم أبواك، ونقل ابن مالك أن سيبويه أومأ إلى جوازه، واستدل الأخفش بقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1933 - خبير بنو لهب فلاتك ملغيا مقالة لهبي إذا الطير مرت



                                                                                                                                                                                                                                      ولا دليل فيه؛ لأن فعيلا يقع بلفظ واحد للمفرد وغيره، فـ "خبير" خبر مقدم، واستدل له أيضا بقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      1934 - فخير نحن عند الناس منكم     إذا الداعي المثوب قال يا لا



                                                                                                                                                                                                                                      فخير مبتدأ، و "نحن" فاعل سد مسد الخبر.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون "خير" خبرا مقدما، "ونحن" مبتدأ [ ص: 650 ] مؤخر ؟ قيل: لئلا يلزم الفصل بين أفعل و "من" بأجنبي بخلاف جعله فاعلا، فإن الفاعل كالخبر بخلاف المبتدإ، وهذا القدر في هذا الموضع كاف، والمسألة قد قررتها في غير هذا الموضوع، و "عليكم" خبره، و "سلام عليكم" أبلغ من "سلاما عليكم" بالنصب، وقد تقرر هذا في أول الفاتحة عند قراءة "الحمد" و "الحمد".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "كتب ربكم" في محل نصب بالقول؛ لأنه كالتفسير لقوله: "سلام عليكم".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أنه، فأنه" قرأ ابن عامر وعاصم بالفتح فيهما، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي بالكسر فيهما، ونافع بفتح الأولى وكسر الثانية، وهذه القراءات الثلاث في المتواتر، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكس قراءة نافع، هذه رواية الزهراوي عنه وكذا الداني. وأما سيبويه فروى قراءته كقراءة نافع، فيحتمل أن يكون عنه روايتان. فأما القراءة الأولى ففتح الأولى فيها من أربعة أوجه، أحدها: أنها بدل من الرحمة، بدل شيء من شيء، والتقدير: كتب على نفسه أنه من عمل إلى آخره، فإن نفس هذه الجمل المتضمنة للإخبار بذلك رحمة. والثاني: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: عليه أنه من عمل إلى آخره. والثالث: أنها فتحت على تقدير حذف حرف الجر، والتقدير: لأنه من عمل، فلما حذفت اللام جرى في محلها الخلاف المشهور. الرابع: أنها مفعول بـ "كتب"، و "الرحمة" مفعول من أجله؛ أي: كتب أنه من عمل لأجل رحمته إياكم. قال الشيخ: [ ص: 651 ] "وينبغي أن لا يجوز؛ لأن فيه تهيئة العامل للعمل وقطعه منه".

                                                                                                                                                                                                                                      وأما فتح الثانية فمن خمسة أوجه، أحدها: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: فغفرانه ورحمته حاصلان أو كائنان، أو فعليه غفرانه ورحمته. وقد أجمع القراء على فتح ما بعد فاء الجزاء في قوله: "ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم، كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله"، كما أجمعوا على كسرها في قوله: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم . الثاني: أنها في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فأمره أو شأنه أنه غفور رحيم. الثالث: أنها تكرير للأولى كررت لما طال الكلام وعطفت عليها بالفاء، وهذا منقول عن أبي جعفر النحاس. وهذا وهم فاحش؛ لأنه يلزم منه أحد محذورين: إما بقاء مبتدإ بلا خبر، أو شرط بلا جواب، وبيان ذلك أن "من" في قوله: "أنه من عمل" لا تخلو: إما أن تكون موصولة أو شرطية، وعلى كلا التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء، فلو جعلنا "أن" الثانية معطوفة على الأولى لزم عدم خبر المبتدإ وجواب الشرط، وهو لا يجوز.

                                                                                                                                                                                                                                      قد ذكر هذا الاعتراض وأجاب عنه الشيخ شهاب الدين أبو شامة، فقال: "ومنهم من جعل الثانية تكريرا للأولى لأجل طول الكلام على حد قوله: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ، ودخلت الفاء في [ ص: 652 ] "فأنه غفور" على حد دخولها في "فلا تحسبنهم بمفازة" على قول من جعله تكريرا لقوله: "لا تحسبن الذين يفرحون"، إلا أن هذا ليس مثل "أيعدكم أنكم"؛ لأن هذه لا شرط فيها وهذه فيها شرط، فيبقى بغير جواب. فقيل: الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه، تقديره: غفر لهم" انتهى. وفيه بعد، وسيأتي هذا الجواب أيضا في القراءة الثانية منقولا عن أبي البقاء ، وكان ينبغي أن يجيب به هنا لكنه لم يفعل، ولم يظهر فرق في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أنها بدل من "أن" الأولى، وهو قول الفراء والزجاج. وهذا مردود بشيئين، أحدهما: أن البدل لا يدخل فيه حرف عطف، وهذا مقترن بحرف العطف، فامتنع أن يكون بدلا. فإن قيل: نجعل الفاء زائدة. فالجواب: أن زيادتها غير جائزة، وهي شيء قال به الأخفش، وعلى تقدير التسليم فلا يجوز ذلك من وجه آخر: وهو خلو المبتدإ أو الشرط عن خبر أو جواب. والثاني من الشيئين: خلو المبتدإ أو الشرط عن الخبر أو الجواب، كما تقدم تقريره، فإن قيل: نجعل الجواب محذوفا - كما تقدم نقله عن أبي شامة - قيل: هذا بعيد عن الفهم.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أنها مرفوعة بالفاعلية، تقديره: فاستقر له أنه غفور؛ أي: استقر له وثبت غفرانه، ويجوز أن نقدر في هذا الوجه جارا رافعا لهذا الفاعل عند الأخفش، تقديره: فعليه أنه غفور؛ لأنه يرفع به وإن لم يعتمد، وقد تقدم تحقيقه غير مرة. [ ص: 653 ]

                                                                                                                                                                                                                                      وأما القراءة الثانية: فكسر الأولى من ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفة وأن الكلام تام قبلها، وجيء بها وبما بعدها كالتفسير لقوله: كتب ربكم على نفسه الرحمة . والثاني: أنها كسرت بعد قول مقدر؛ أي: قال الله ذلك، وهذا في المعنى كالذي قبله. والثالث: أنه أجرى "كتب" مجرى "قال"، فكسرت بعده كما تكسر بعد القول الصريح، وهذا لا يتمشى على أصول البصريين. وأما كسر الثانية فمن وجهين، أحدهما: أنها على الاستئناف، بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبرا لـ "من" الموصولة، أو جوابا لها إن كانت شرطا. والثاني: أنها عطف على الأولى وتكرير لها، ويعترض على هذا بأنه يلزم بقاء المبتدإ بلا خبر، أو الشرط بلا جزاء، كما تقدم ذلك في المفتوحتين.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب أبو البقاء هنا عن ذلك بأن خبر "من" محذوف دل عليه الكلام، وقد قدمت لك أنه كان ينبغي أن يجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند من جعل الثانية تكريرا للأولى أو بدلا منها، ثم قال: "ويجوز أن يكون العائد محذوفا؛ أي: فإنه غفور له". قلت: قوله: "ويجوز" ليس بجيد، بل كان ينبغي أن يقول: ويجب؛ لأنه لا بد من ضمير عائد على المبتدإ من الجملة الخبرية، أو ما يقوم مقامه إن لم يكن نفس المبتدإ.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما القراءة الثالثة: فيؤخذ فتح الأولى وكسر الثانية مما تقدم من كسرها وفتحها بما يليق من ذلك، وهو ظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما القراءة الرابعة فكذلك. وقال أبو شامة: "وأجاز الزجاج كسر [ ص: 654 ] الأولى وفتح الثانية، وإن لم يقرأ به". قلت: قد قدمت أن هذه قراءة الأعرج، وأن الزهراوي وأبا عمرو الداني نقلاها عنه، فكأن الشيخ لم يطلع عليها، وقدمت لك أيضا أن سيبويه لم يرو عن الأعرج إلا كقراءة نافع، فهذا مما يصلح أن يكون عذرا للزجاج، وأما أبو شامة فإنه متأخر، فعدم اطلاعه عجيب.

                                                                                                                                                                                                                                      والهاء في "أنه" ضمير الأمر والقصة. و "من" يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة، وعلى كل تقدير فهي مبتدأة، والفاء وما بعدها في محل جزم جوابا إن كانت شرطا، وإلا ففي محل رفع خبرا إن كانت موصولة، والعائد محذوف؛ أي: غفور له. والهاء في "بعده" يجوز أن تعود على "السوء"، وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل، كقوله: "اعدلوا هو أقرب"، والأول أولى لأنه أصرح، و "منكم" متعلق بمحذوف؛ إذ هو حال من فاعل "عمل"، ويجوز أن تكون "من" للبيان، فيعمل فيها "أعني" مقدرا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "بجهالة" فيه وجهان، أحدهما: أنه يتعلق بـ "عمل" على أن الباء للسببية؛ أي: عمله بسبب الجهل. وعبر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به، وليس بواضح. والثاني - وهو الظاهر - أنها للحال؛ أي: عمله مصاحبا للجهالة. و "من" في "من بعده" لابتداء الغاية.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية