الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 6 ) قوله تعالى: كم أهلكنا يجوز في "كم" أن تكون استفهامية وخبرية، وعلى كلا التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العمل؛ لأن الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في ذلك، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التصدير وغيره. والرؤية هنا علمية، ويضعف كونها بصرية، وعلى كلا التقديرين فهي معلقة عن العمل؛ لأن البصرية تجري مجراها، فإن كانت علمية فـ "كم" وما في حيزها سادة مسد مفعولين، وإن كانت بصرية فمسد واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      و "كم" يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص، فتكون مفعولا بها ناصبها "أهلكنا"، و "من قرن" على هذا تمييز لها، وأن تكون عبارة عن المصدر فتنتصب انتصابه بأهلكنا؛ أي: إهلاكا، و "من قرن" على هذا صفة لمفعول "أهلكنا"؛ أي: أهلكنا قوما أو فوجا من القرون؛ لأن قرنا يراد به الجمع، و "من" تبعيضية، والأولى لابتداء الغاية. وقال الحوفي: "من" الثانية بدل من "من" الأولى"، وهذا لا يعقل فهو وهم بين، ويجوز أن تكون "كم" عبارة عن الزمان فتنتصب على الظرف. قال أبو البقاء : "تقديره: كم أزمنة أهلكنا فيها"، وجعل أبو البقاء على هذا الوجه "من قرن" هو المفعول به، و "من" مزيدة [ ص: 536 ] فيه، وجاز ذلك؛ لأن الكلام غير موجب والمجرور نكرة. إلا أن الشيخ منع ذلك بأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع، لو قلت: [ "كم أزمانا ضربت رجلا، أو كم مرة ضربت رجلا"، لم يكن مدلول رجل رجالا ]؛ لأن السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة أو المرات التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس [ موضع زيادة "من"؛ لأنها لا تزاد في الاستفهام ]، إلا وهو استفهام محض أو يكون بمعنى النفي، والاستفهام هنا ليس محضا ولا مرادا به النفي. [ انتهى. والجواب عما قاله: لا نسلم ذلك ].

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "مكناهم في الأرض" في موضع جر صفة لـ "قرن"، وعاد الضمير عليه جمعا باعتبار معناه، قاله أبو البقاء والحوفي، وضعفه الشيخ بأن "من قرن" تمييز لـ "كم"، فـ "كم" هي المحدث عنها بالإهلاك، فهي المحدث عنها بالتمكين لا ما بعدها، إذ "من قرن" يجري مجرى التبيين، ولم يحدث عنه. وجوز الشيخ أن تكون هذه الجملة استئنافا جوابا لسؤال مقدر، قال كأنه قيل: ما كان من حالهم ؟ فقيل: مكناهم، وجعله هو الظاهر. وفيه نظر، فإن النكرة مفتقرة للصفة، فجعلها صفة أليق.

                                                                                                                                                                                                                                      والفرق بين قوله: "مكناهم في الأرض"، [ وقوله ]: "ما لم نمكن لكم": أن [ ص: 537 ] "مكنه في كذا": أثبته فيها، ومنه: ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ، وأما مكن له فمعناه: جعل له مكانا، ومنه: إنا مكنا له في الأرض ، أولم نمكن لهم ، ومثله: "أرض له"؛ أي: جعل له أرضا، هذا قول الزمخشري. وأما الشيخ فإنه يظهر من كلامه التسوية بينهما، فإن قال: "وتعدي مكن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر، والأكثر تعديته باللام: "مكنا ليوسف"، "إنا مكنا له"، "أولم نمكن لهم". وقال أبو عبيدة: "مكناهم ومكنا لهم: لغتان فصيحتان، نحو: نصحته ونصحت له". [ قلت: وبهذا قال ] أبو علي والجرجاني.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ما لم نمكن لكم" في "ما" هذه خمسة أوجه، أحدها: أن تكون موصولة بمعنى الذي، وهي حينئذ صفة لموصوف محذوف، والتقدير: التمكين الذي لم نمكن لكم، والعائد محذوف؛ أي: الذي لم نمكنه لكم. الثاني: أنها نكرة صفة لمصدر محذوف، تقديره: تمكينا ما لم نمكنه لكم، ذكرهما الحوفي. ورد الشيخ الأول بأن "ما" بمعنى الذي لا تكون صفة لمعرفة، وإن [ ص: 538 ] كان "الذي" يقع صفة لها، ولو قلت: "ضربت الضرب ما ضرب زيد"، تريد: الضرب الذي ضربه زيد، لم يجز، فإن قلت: "الضرب الذي ضربه زيد" جاز. ورد الثاني بأن "ما" النكرة التي تقع صفة لا يجوز حذف موصوفها، لو قلت: "قمت ما وضربت ما" وأنت تعني: قمت قياما ما وضربا ما، لم يجز".

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن تكون مفعولا بها لـ "مكن" على المعنى؛ لأن معنى مكناهم: أعطيناهم ما لم نعطكم، ذكره أبو البقاء . قال الشيخ: "هذا تضمين، والتضمين لا ينقاس". الرابع: أن تكون "ما" مصدرية، والزمان محذوف؛ أي: مدة ما لم نمكن لكم، والمعنى: مدة انتفاء التمكين لكم. الخامس: أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد محذوف؛ أي: شيئا لم نمكنه لكم، ذكرهما أيضا أبو البقاء . قال الشيخ في الأخير: "وهذا أقرب إلى الصواب". قلت: ولو قدره أبو البقاء بخاص لكان أحسن من تقديره بلفظ شيء، فكان يقول: مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "يروا" قيل: عائد على المستهزئين، والخطاب في "لكم" راجع إليهم أيضا، فيكون على هذا التفاتا فائدته التعريض بقلة تمكن هؤلاء، ونقص أحوالهم عن حال أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حل بهم الهلاك، فكيف وأنتم أقل منهم تمكينا وعددا ؟ وقال ابن عطية : "والمخاطبة في "لكم" هي للمؤمنين، ولجميع المعاصرين لهم، ولسائر الناس كافة، كأنه قيل: [ ص: 539 ] ما لم نمكن يا أهل هذا العصر لكم، ويحتمل أن يقدر معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال: يا محمد قل لهم: ألم يروا كم أهلكنا الآية، فإذا أخبرت أنك قلت - أو أمرت أن يقال - فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغيبة دون الخطاب". انتهى، ومثاله: "قلت لزيد: ما أكرمك، أو ما أكرمه".

                                                                                                                                                                                                                                      والقرن: لفظ يقع على معان كثيرة، فالقرن: الأمة من الناس، سموا بذلك لاقترانهم في مدة من الزمان، ومنه قوله عليه السلام: " خير القرون قرني ". وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1864 - أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكع



                                                                                                                                                                                                                                      وقال قس بن ساعدة:


                                                                                                                                                                                                                                      1865 - في الذاهبين الأوليـ     ـن من القرون لنا بصائر



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: أصله الارتفاع، ومنه قرن الثور وغيره، فسموا بذلك لارتفاع السن، وقيل: لأن بعضهم يقرن ببعض ويجعل مجتمعا معه، ومنه القرن للحبل يجمع به بين البعيرين، ويطلق على المدة من الزمان أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وهل إطلاقه على الناس والزمان بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز ؟ الراجح الثاني؛ لأن المجاز خير من الاشتراك. وإذا قلنا بالراجح فإنها الحقيقة، الظاهر أنه القوم؛ لأن غالب ما يطلق عليهم، والغلبة مؤذنة بالأصالة [ ص: 540 ] غالبا. وقال ابن عطية : "القرن أن يكون وفاة الأشياخ وولادة الأطفال، ويظهر ذلك من قوله تعالى: وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فجعله معنى، وليس بواضح. وقيل: القرن: الناس المجتمعون، قلت السنون أو كثرت، واستدلوا بقوله عليه السلام: " خير القرون قرني "، وبقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1866 - في الذاهبين الأوليـ     ـن من القرون لنا بصائر



                                                                                                                                                                                                                                      وبقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1867 - إذا ذهب القوم الذي كنت فيهم     وخلفت في قرن فأنت غريب



                                                                                                                                                                                                                                      فأطلقوه على الناس بقيد الاجتماع. ثم اختلف الناس في كمية القرن حالة إطلاقه على الزمان، فالجمهور أنه مئة سنة، واستدلوا له بقوله عليه السلام: " يعيش قرنا "، فعاش مائة سنة. وقيل: مئة وعشرون، قاله إياس بن معاوية، وزارة بن أبي أوفى. وقيل: ثمانون، نقله صالح عن ابن [ ص: 541 ] عباس. وقيل: سبعون، قاله الفراء . وقيل: ستون؛ لقوله عليه السلام: " معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين ". وقيل: أربعون، حكاه محمد بن سيرين، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الزهراوي أيضا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: ثلاثون، حكاه النقاش عن أبي عبيدة، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة. وقيل: عشرون، وهو رأي الحسن البصري. وقيل: ثمانية عشر عاما. وقيل: هو المقدار الوسط من أعمار أهل ذلك الزمان، واستحسن هذا بأن أهل الزمن القديم كانوا يعيشون أربع مئة سنة، وثلاث مائة، وألفا، وأكثر وأقل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقدر بعض الناس في قوله تعالى: كم أهلكنا من قبلهم من قرن أهلا؛ أي: أهل قرن؛ لأن القرن الزمان، ولا حاجة إلى ذلك إلا على اعتقاد أنه حقيقة فيه، مجاز في الناس، وقد قدمت أن الراجح خلافه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "مدرارا" حال من “السماء" إن أريد بها السحاب، فإن السحاب يوصف بكثرة التتابع أيضا، وإن أريد به الماء فكذلك. ويدل على أنه يراد به الماء قوله في الحديث: " في إثر سماء كانت من الليل "، ويقولون: ما نزلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، ومنه:


                                                                                                                                                                                                                                      1868 - إذا نزل السماء بأرض قوم     رعيناه وإن كانوا غضابا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: رعينا ما ينشأ عنه. وإن أريد بها هذه المظلة فلا بد من حذف مضاف حينئذ؛ أي: مطر السماء، ويكون "مدرارا" حالا منه. ومدرار مفعال، [ ص: 542 ] وهو للمبالغة، كامرأة مذكار ومئناث. قالوا: وأصله من "در اللبن" وهو كثرة وروده على الحالب، ومنه: "لا در دره" في الدعاء عليه بقلة الخير، وفي المثل: "سبقت درته غراره"، وهي مثل قولهم: "سبق سيله مطره". و "استدرت المعزى" كناية عن طلبها الفحل، قالوا: لأنها إذا طلبته حملت فولدت فدرت.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "تجري" إن جعلنا "جعل" تصييرية كان "تجري" مفعولا ثانيا، وإن جعلناها إيجادية كان حالا. و "من تحتهم" يجوز فيه أوجه: أن يكون متعلقا بـ "تجري"، وهذا هو الذي ينبغي أن لا يعدل عنه، وأن يكون حالا: إما من فاعل "تجري"، أو من “الأنهار"، وأن يكون مفعولا ثانيا لـ "جعلنا"، و "تجري" على هذا حال من الضمير في الجار، وفيه ضعف لتقدمها على العامل المعنوي، ويجوز أن يكون "من تحتهم" حالا من “الأنهار" كما تقدم، و "تجري" حال من الضمير المستكن فيه، وفيه الضعف المتقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من بعدهم" متعلق بـ "أنشأنا". قال أبو البقاء : "ولا يجوز أن يكون حالا من "قرن"؛ لأنه ظرف زمان"، يعني: أنه لو تأخر عن قرن لكان يتوهم جواز كونه صفة له، فلما قدم عليه قد يوهم أن يكون حالا منه، لكنه منع ذلك كونه ظرف زمان، والزمان لا يخبر به عن الجثث ولا يوصف به، وقد تقدم لك أنه يصح ذلك بتأويل ذكرته في البقرة عند قوله: "والذين من قبلكم". و "آخرين" صفة لـ "قرن"؛ لأنه اسم جمع كقوم ورهط؛ فلذلك [ ص: 543 ] اعتبر معناه، ومن قال: إنه الزمان قدر مضافا؛ أي: أهل قرن آخرين، وقد قدمت أنه مرجوح.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية