الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 14 ) قوله تعالى: أغير الله : مفعول أول لـ "أتخذ"، و "وليا" مفعول ثان، وإنما قدم المفعول الأول على فعله لمعنى، وهو إنكار أن يتخذ غير الله وليا لا اتخاذ الولي، ونحوه قولك لمن يهين زيدا وهو مستحق للإكرام: "أزيدا أهنت"، أنكرت أن يكون مثله مهانا. وقد تقدم هذا موضحا في قوله: أأنت قلت للناس ، ومثله: أغير الله أبغي ربا ، أفغير الله تأمروني أعبد ، آلله أذن لكم ، آلذكرين حرم ، وهو كثير. ويجوز أن يكون "أتخذ" متعديا لواحد، فيكون "غير" منصوبا على الحال من "وليا"؛ لأنه في الأصل صفة له، ولا يجوز أن يكون استثناء البتة، كذا منعه أبو البقاء ، ولم يبين وجهه. والذي يظهر أن المانع تقدمه على المستثنى منه في المعنى وهو "وليا"، وأما المعنى فلا يأبى الاستثناء؛ لأن الاستفهام لا يراد به حقيقته، بل يراد به الإنكار، فكأنه قيل: لا أتخذ وليا غير الله، ولو قيل كذا لكان صحيحا، فظهر أن المانع عنده إنما هو التقديم على المستثنى منه، لكن ذلك جائز، وإن كان قليلا، ومنه:


                                                                                                                                                                                                                                      1874 - وما لي آل أحمد شيعة وما لي إلا مشعب الحق مشعب [ ص: 555 ]



                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور "فاطر" بالجر، وفيها تخريجان، أحدهما - وبه قال الزمخشري ، والحوفي، وابن عطية - صفة للجلالة المجرورة بـ "غير"، ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها؛ لأنها ليست بأجنبية؛ إذ هي عاملة في عامل الموصوف. والثاني - وإليه نحا أبو البقاء -: أنه بدل من اسم الله، وكأنه فر من الفصل بين الصفة وموصوفها، فإن قيل: هذا لازم له في البدل، فإنه فصل بين التابع ومتبوعه أيضا. فيقال: إن الفصل بين البدل والمبدل أسهل؛ لأن البدل على نية تكرار العامل، فهو أقرب إلى الفصل. وقد ترجح تخريجه بوجه آخر: وهو أن "فاطر" اسم فاعل، والمعنى ليس على المضي حتى تكون إضافته غير محضة، فيلزم وصف المعرفة بالنكرة؛ لأنه في نية الانفصال من الإضافة، ولا يقال: الله فاطر السماوات والأرض فيما مضى، فلا يراد حال ولا استقبال؛ لأن كلام الله تعالى قديم متقدم على خلق السماوات، فيكون المراد به الاستقبال قطعا، ويدل على جواز كونه في نية التنوين ما سأذكره عن أبي البقاء قريبا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، وتخريجه سهل، وهو أنه خبر مبتدأ محذوف. وخرجه ابن عطية على أنه مبتدأ، فيحتاج إلى تقدير خبر الدلالة عليه خفية، بخلاف تقدير المبتدإ فإنه ضمير الأول؛ أي: هو فاطر، وقرئ شاذا بنصبه، وخرجه أبو البقاء على وجهين، أحدهما: أنه بدل من "وليا"، قال: "والمعنى على هذا: أجعل فاطر السماوات والأرض غير الله ؟ كذا قدر. وفيه نظر؛ فإنه جعل المفعول الأول وهو "غير الله" مفعولا ثانيا، وجعل البدل من المفعول الثاني مفعولا أول، فالتقدير عكس التركيب الأصلي. والثاني: أنه صفة لـ "وليا"، قال: [ ص: 556 ] ويجوز أن يكون صفة لـ "وليا" والتنوين مراد". قلت: يعني بقوله: "التنوين مراد": أن اسم الفاعل عامل تقديرا، فهو في نية الانفصال، ولذلك وقع وصفا للنكرة، كقوله: هذا عارض ممطرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الوجه لا يكاد يصح؛ إذ يصير المعنى: أأتخذ غير الله وليا فاطر السماوات إلى آخره، فيصف ذلك الولي بأنه فاطر السماوات. وقرأ الزهري: "فطر" على أنه فعل ماض، وهي جملة في محل نصب على الحال من الجلالة، كما كان "فاطر" صفتها في قراءة الجمهور. ويجوز على رأي أبي البقاء أن تكون صفة لـ "وليا"، ولا يجوز أن تكون صفة للجلالة؛ لأن الجملة نكرة.

                                                                                                                                                                                                                                      والفطر: الشق مطلقا، وقيده الراغب بالشق طولا، وقيده الواحدي بشق الشيء عند ابتدائه. والفطر: الإبداع والاتخاذ على غير مثال، ومنه: "فاطر السماوات"؛ أي: أوجدها على غير مثال يحتذى. وعن ابن عباس: "ما كنت أدري ما معنى فطر وفاطر، حتى اختصم إلي أعربيان في بئر، فقال أحدهما: "أنا فطرتها"؛ أي: أنشأتها وابتدأتها. ويقال: فطرت كذا فطر، وفطرا هو فطورا، وانفطر انفطارا، وفطرت الشاة: حلبتها بأصبعين، وفطرت العجين: خبزته من وقته، وقوله تعالى: فطرت الله التي فطر الناس عليها ، إشارة منه إلى ما فطر؛ أي: أبدع وركز في الناس من معرفته، ففطرة الله ما ركز من القوة المدركة لمعرفته، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ، وعليه: " كل مولود يولد على الفطرة... " الحديث، وهذا أحسن ما سمعت في تفسير "فطرت الله" في الكتاب والسنة. [ ص: 557 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وهو يطعم ولا يطعم القراءة المشهورة ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول، والضمير لله تعالى، والمعنى: وهو يرزق ولا يرزق، وهو موافق لقوله تعالى: ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، والأعمش، وأبو حيوة، وعمرو بن عبيد، وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه: "ولا يطعم" بفتح الياء والعين بمعنى: ولا يأكل، والضمير لله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة ويمان العماني: "ولا يطعم"، بضم الياء وكسر العين كالأول، فالضميران - أعني: هو والمستكن في "يطعم" - عائدان على الله تعالى، والضمير في "ولا يطعم" للولي. وقرأ يعقوب في رواية ابن المأمون: "وهو يطعم ولا يطعم" ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، على عكس القراءة المشهورة، والضمائر الثلاثة - أعني: هو والمستترين في الفعلين - للولي فقط؛ أي: وذلك الولي يطعمه غيره ولا يطعم هو أحدا لعجزه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأشهب: "وهو يطعم ولا يطعم" ببنائهما للفاعل. وذكر الزمخشري فيها تخريجين ثانيهما لنفسه، فإنه قال - بعد أن حكى القراءة -: "وفسر بأن معناه: وهو يطعم ولا يستطعم". وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى استطعمت، ونحوه: أفدت، ويجوز أن يكون المعنى: وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح، كقولك: هو يعطي ويمنع، ويقدر ويبسط، ويغني ويفقر". قلت: [ هكذا ذكر الشيخ هذه القراءة، وقراءة الأشهب هي ] كقراءة ابن أبي عبلة والعماني سواء، لا تخالف بينهما، [ ص: 558 ] فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كلهم، وألا يوهم هذا أنهما قراءتان متغايرتان، وليس كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ شاذا: "يطعم" بفتح الياء والعين، ولا يطعم بضم الياء وكسر العين؛ أي: وهو يأكل ولا يطعم غيره، ذكر هذه القراءة أبو البقاء ، وقال: "والضمير راجع على الولي الذي هو غير الله". فهذه ست قراءات وفي بعضها - وهي تخالف الفعلين - من صناعة البديع تجنيس التشكيل، وهو أن يكون الشكل فارقا بين الكلمتين، وسماه أسامة بن منقذ: تجنيس التحريف، وهو تسمية فظيعة، فتسميته بتجنيس التشكيل أولى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من أسلم": "من" يجوز أن تكون نكرة موصوفة واقعة موقع اسم جمع؛ أي: أول فريق أسلم، وأن تكون موصولة؛ أي: أول الفريق الذي أسلم. وأفرد الضمير في "أسلم": إما باعتبار لفظ "فريق" المقدر، وإما باعتبار لفظ "من". وقد تقدم الكلام على "أول" وكيف يضاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في البقرة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولا تكونن" فيه تأويلان، أحدهما على إضمار القول؛ أي: وقيل لي: لا تكونن، قال أبو البقاء : "ولو كان معطوفا على ما قبله لفظا لقال: "وأن لا أكون"، وإليه نحا أبو القاسم الزمخشري ، فإنه قال: "ولا تكونن: وقيل لي: لا تكونن، ومعناه: وأمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك". والثاني: أنه معطوف على معمول "قل" حملا على المعنى، والمعنى: قل: إني قيل لي: [ ص: 559 ] كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين، [ فهما ] جميعا محمولان على القول، لكن أتى الأول بغير لفظ القول وفيه معناه، فحمل الثاني على المعنى. وقيل: هو عطف على "قل"، أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية