الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 45 ) قوله تعالى: أن النفس بالنفس الآية. "عليهم" [ ص: 273 ] الضمير للذين هادوا، و "فيها" للتوراة. و "أن النفس بالنفس": "أن" واسمها وخبرها في محل نصب على المفعولية بـ "كتبنا"، والتقدير: وكتبنا عليهم أخذ النفس بالنفس. وقرأ الكسائي: و "العين" وما عطف عليها بالرفع، وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم بنصب الجميع، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر بالنصب، فيما عدا "الجروح" فإنهم يرفعونها. فأما قراءة الكسائي فوجهها أبو علي الفارسي بثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون الواو عاطفة جملة اسمية على جملة فعلية، فتعطف الجمل كما تعطف المفردات، يعني: أن قوله: "والعين" مبتدأ، و "بالعين" خبره، وكذا ما بعدها، والجملة الاسمية عطف على الفعلية من قوله: "وكتبنا"، وعلى هذا فيكون ذلك ابتداء تشريع، وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة، قالوا: وليست مشركة للجملة مع ما قبلها، لا في اللفظ ولا في المعنى. وعبر الزمخشري عن هذا الوجه بالاستئناف، قال: أو للاستئناف، والمعنى: فرضنا عليهم أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها، إذا قتلتها بغير حق، وكذلك العين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوع بالأنف، والأذن مصلومة أو مقطوعة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن، والجروح قصاص وهو المقاصة. وتقديره: أن النفس مأخوذة بالنفس، سبقه إليه الفارسي، إلا أنه قدر ذلك في جميع المجرورات؛ أي: والعين مأخوذة بالعين إلى آخره، والذي قدره الزمخشري مناسب جدا، فإنه قدر متعلق كل مجرور بما يناسبه: فالفقء للعين، والقلع للسن، والصلم للأذن، والجدع للأنف. إلا أن الشيخ كأنه غض منه حيث قدر الخبر الذي تعلق به المجرور كونا مقيدا. والقاعدة في ذلك إنما يقدر كونا مطلقا، قال: وقال الحوفي: "بالنفس" يتعلق بفعل [ ص: 274 ] محذوف تقديره: يجب أو يستقر، وكذا العين بالعين وما بعدها، فقدر الكون المطلق، والمعنى: يستقر قتلها بقتل النفس، إلا أنه قال قبل ذلك: وينبغي أن يحمل قول الزمخشري على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب، ثم قال: فقدر - يعني: الزمخشري - ما يقرب من الكون المطلق وهو "مأخوذ"، فإذا قلت: بعت الشياه شاة بدرهم، فالمعنى: مأخوذة بدرهم، وكذلك الحر بالحر؛ أي: مأخوذ.

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني من توجيه الفارسي: أن تكون الواو عاطفة جملة اسمية على الجملة من قوله: "أن النفس بالنفس"، لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن معنى "كتبنا عليهم أن النفس بالنفس": قلنا لهم: النفس بالنفس، فالجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى، وذكر ما تقدم، ثم قال: ومثله لما كان المعنى في قوله: يطاف عليهم بكأس من معين : يمنحون، عطف "وحورا عينا" عليه، فنظر هذه الآية بتلك؛ لاشتراكهما في النظر إلى المعنى دون اللفظ، وهو حسن. قال الشيخ: وهذا من العطف على التوهم، إذ توهم في قوله: "أن النفس بالنفس": النفس بالنفس، وضعفه بأن العطف على التوهم لا ينقاس. والزمخشري نحا إلى هذا المعنى، ولكنه عبر بعبارة أخرى، فقال: الرفع [ للعطف ] على محل "أن النفس"؛ لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس؛ إما لإجراء "كتبنا" مجرى "قلنا"، وإما أن معنى الجملة التي هي "النفس بالنفس" مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة، [ ص: 275 ] تقول: كتبت: الحمد لله، وقرأت: سورة أنزلناها؛ ولذلك قال الزجاج: لو قرئ: "إن النفس بالنفس" بالكسر، لكان صحيحا. قال الشيخ: هذا هو [ الوجه ] الثاني من توجيه أبي علي، إلا أنه خرج عن المصطلح، حيث جعله من العطف على المحل، وليس منه؛ لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع، وهو محصور ليس هذا منه، ألا ترى أنا لا نقول: "أن النفس بالنفس" في محل رفع؛ لأن طالبه مفقود، بل "أن" وما في حيزها بتأويل مصدر لفظه وموضعه نصب، إذ التقدير: كتبنا عليهم أخذ النفس. قلت: والزمخشري لم يعن أن "أن" وما في حيزها في محل رفع، فعطف عليها المرفوع حتى يلزمه الشيخ بأن لفظها ومحلها نصب، إنما عنى أن اسمها محله الرفع قبل دخولها، فراعى العطف عليه كما راعاه في اسم "إن" المكسورة. وهذا الرد ليس للشيخ، بل سبقه إليه أبو البقاء فأخذه منه. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون معطوفا على "أن" وما عملت فيه؛ لأنها وما عملت فيه في موضع نصب. انتهى. وليس بشيء لما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: فمعنى الحديث: قلنا لهم: النفس بالنفس، فحمل "العين بالعين" على هذا؛ لأن "أن" لو حذفت لاستقام المعنى بحذفها كما استقام بثبوتها، وتكون "النفس" مرفوعة، فصارت "أن" هنا كـ "إن" المكسورة في أن حذفها لا يخل بالجملة، فجاز العطف على محل اسمها، كما يجوز على محل اسم المكسورة، وقد حمل على ذلك: أن الله بريء من المشركين ورسوله ، قال الشيخ أبو عمرو: - يعني: ابن الحاجب - "ورسوله" بالرفع معطوف على اسم "أن" وإن كانت مفتوحة؛ لأنها في حكم المكسورة، [ ص: 276 ] وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون. قلت: بلى قد نبه النحويون على ذلك واختلفوا فيه، فجوزه بعضهم وهو الصحيح، وأكثر ما يكون ذلك بعد "علم" أو ما في معناه، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1731 - وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "وأذان من الله" الآية؛ لأن الأذان بمعنى الإعلام.

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث: أن "العين" عطف على الضمير المرفوع المستتر في الجار الواقع خبرا، إذ التقدير: أن النفس بالنفس هي والعين، وكذا ما بعدها، والجار والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبينة للمعنى؛ إذ المرفوع هنا مرفوع بالفاعلية لعطفه على الفاعل المستتر، وضعف هذا بأن هذه أحوال لازمة، والأصل أن تكون منتقلة، وبأنه يلزم العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل بين المتعاطفين، ولا تأكيد، ولا فصل بـ "لا" بعد حرف العطف، كقوله: ما أشركنا ولا آباؤنا ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة، قال أبو البقاء: وجاز العطف من غير توكيد، كقوله: ما أشركنا ولا آباؤنا . قلت: قام الفصل بـ "لا" بين حرف العطف والمعطوف مقام التوكيد، فليس نظيره. وللفارسي [ بحث في قوله: ما أشركنا ولا آباؤنا مع سيبويه، فإن سيبويه يجعل طول الكلام بـ "لا" عوضا عن التوكيد بالمنفصل، [ ص: 277 ] كما طال ] الكلام في قولهم: حضر القاضي اليوم امرأة، قال الفارسي: هذا يستقيم إذا كان قبل حرف العطف، أما إذا وقع بعده فلا يسد مسد الضمير، ألا ترى أنك لو قلت: حضر امرأة القاضي اليوم، لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه. قال ابن عطية: وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي، وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم، فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية؛ لأن "لا" ربطت المعنى، إذ قد تقدمها نفي، ونفت هي أيضا عن الآباء، فيمكن العطف.

                                                                                                                                                                                                                                      واختار أبو عبيد قراءة رفع الجميع، وهي رواية الكسائي؛ لأن أنسا رواها قراءة للنبي صلى الله عليه وسلم. وروى أنس عنه عليه السلام أيضا: "أن النفس بالنفس" بتخفيف "أن" ورفع النفس، وفيها تأويلان، أحدهما: أن تكون "أن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف، و "النفس بالنفس" مبتدأ وخبر في محل رفع خبرا لـ "أن" المخففة، كقوله: "أن الحمد لله رب العالمين"، فيكون المعنى كمعنى المشددة. والثاني: أنها "أن" المفسرة؛ لأنها بعدما هو بمعنى القول لا حروفه، وهو "كتبنا"، والتقدير: أي النفس بالنفس، ورجح هذا على الأول بأنه يلزم من الأول وقوع المخففة بعد غير العلم، وهو قليل أو ممنوع، وقد يقال: إن "كتبنا" لما كان بمعنى "قضينا" قرب من أفعال اليقين.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة نافع ومن معه، فالنصب على اسم "أن" لفظا، وهي "النفس" والجار بعده خبره، و "قصاص" خبر "الجروح"؛ أي: وأن الجروح قصاص، وهذا من عطف الجمل، عطفنا الاسم على الاسم والخبر على الخبر، [ ص: 278 ] كقولك: إن زيدا قائم وعمرا منطلق، عطفت "عمرا" على "زيدا"، و "منطلق" على "قائم"، ويكون الكتب شاملا للجميع، إلا أن في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكون "قصاص" خبرا على المنصوبات أجمع، فإنه قال: وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم بنصب ذلك كله، و "قصاص" خبر "أن". وهذا وإن كان يصدق أن أخذ النفس بالنفس والعين بالعين قصاص، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصا بالجروح، وهو محل نظر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة أبي عمرو ومن معه، فالمنصوب كما تقدم في قراءة نافع، لكنهم لم ينصبوا "الجروح" قطعا له عما قبله، وفيه أربعة أوجه؛ الثلاثة المذكورة في توجيه قراءة الكسائي، وقد تقدم إيضاحه. والرابع: أنه مبتدأ وخبره "قصاص"، يعني: أنه ابتداء تشريع، وتعريف حكم جديد. قال أبو علي: فأما "والجروح قصاص"؛ فمن رفعه يقطعه عما قبله، فإنه يحتمل هذه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها في قراءة من رفع "والعين بالعين"، ويجوز أن يستأنف "والجروح قصاص" ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة، ولكنه على الاستئناف وابتداء تشريع. انتهى. إلا أن أبا شامة قال: - قبل أن يحكي عن الفارسي هذا الكلام - ولا يستقيم في رفع "الجروح" الوجه الثالث، وهو أنه عطف على الضمير الذي في خبر "النفس"، وإن جاز فيما قبلها، وسببه استقامة المعنى في قولك: مأخوذة هي بالنفس، والعين هي مأخوذة بالعين، ولا يستقيم: والجروح مأخوذة قصاص، وهذا معنى قولي لما خلا قوله: "الجروح قصاص" عن الباء في الخبر، خالف الأسماء التي قبلها، فخولف [ ص: 279 ] بينهما في الإعراب. قلت: وهذا الذي قاله واضح، ولم يتنبه له كثير من المعربين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: إنما رفع "الجروح" ولم ينصب تبعا لما قبله فرقا بين المجمل والمفسر، يعني: أن قوله: "النفس بالنفس والعين بالعين" مفسر غير مجمل، بخلاف "الجروح" فإنها مجملة؛ إذ ليس كل جرح يجري فيه قصاص، بل ما كان يعرف فيه المساواة، وأمكن ذلك فيه على تفصيل معروف في كتب الفقه. وقال بعضهم: خولف في الإعراب لاختلاف الجراحات وتفاوتها، فإذن الاختلاف في ذلك كالخلاف المشار إليه، وهذان الوجهان لا معنى لهما، ولا ملازمة بين مخالفة الإعراب ومخالفة الأحكام المشار إليها بوجه من الوجوه، وإنما ذكرتها تنبيها على ضعفها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نافع: "والأذن بالأذن" سواء كان مفردا أم مثنى، كقوله: كأن في أذنيه وقرا بسكون الذال، وهو تخفيف للمضموم، كعنق في "عنق"، والباقون بضمها، وهو الأصل. ولا بد من حذف مضاف في قوله: "والجروح قصاص"؛ إما من الأول، وإما من الثاني، وسواء قرئ برفعه أو بنصبه، تقديره: وحكم الجروح قصاص، أو والجروح ذات قصاص.

                                                                                                                                                                                                                                      والقصاص: المقاصة، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة. وقرأ أبي بنصب "النفس"، والأربعة بعدها و "أن الجروح" بزيادة "أن" الخفيفة، ورفع "الجروح"، وعلى هذه القراءة يتعين أن تكون المخففة، ولا يجوز أن تكون المفسرة، بخلاف ما تقدم من قراءة أنس عنه عليه السلام بتخفيف "أن" ورفع [ ص: 280 ] "النفس"، حيث جوزنا فيها الوجهين، وذلك لأنه لو قدرتها التفسيرية وجعلتها معطوفة على ما قبلها فسد، من حيث إن "كتبنا" يقتضي أن يكون عاملا لأجل "أن" المشددة غير عامل لأجل "أن" التفسيرية، فإذا انتفى تسلطه عليها، انتفى تشريكها مع ما قبلها؛ لأنه إذا لم يكن عمل فلا تشريك، فإذا جعلتها المخففة تسلط عمله، فاقتضى العمل التشريك في انصباب معنى الكتب عليهما. وقرأ أبي: "فهو كفارته له"؛ أي: التصدق كفارة، يعني: الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها، وهو تعظيم لما فعل، كقوله: "فأجره على الله".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فمن تصدق به"؛ أي: بالقصاص المتعلق بالنفس، أو بالعين، أو بما بعدها، فهو؛ أي: فذلك التصدق، عاد الضمير على المصدر لدلالة فعله عليه، وهو كقوله تعالى: "اعدلوا هو أقرب". والضمير في "له" فيه ثلاثة أوجه، أحدها - وهو الظاهر -: أنه يعود على المتصدق، والمراد به: من يستحق القصاص من مصاب أو ولي؛ أي: فالتصدق كفارة لذلك المتصدق بحقه، وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من الصحابة فمن بعدهم. والثاني: أن الضمير يراد به الجاني، والمراد بالمتصدق كما تقدم مستحق القصاص، والمعنى: أنه إذا تصدق المستحق على الجاني، كان ذلك التصدق كفارة للجاني حيث لم يؤاخذ به. قال الزمخشري: وقيل: فهو كفارة له؛ أي: للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه، وإلى هذا ذهب ابن عباس في آخرين. والثالث: أن الضمير يعود على المتصدق أيضا، لكن المراد به الجاني نفسه، ومعنى كونه متصدقا: أنه إذا جنى جناية ولم يعرف به أحد فعرف هو بنفسه، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته، قاله [ ص: 281 ] مجاهد، ويحكى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنسانا في طوافه، فلم يعرف الرجل من أصابه، فقال له عروة: "أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير، فإن كان يعنيك شيء فها أنا ذا"، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون "تصدق" من الصدقة، وأن يكون من الصدق. قلت: الأول واضح، والثاني معناه أنه يتكلف الصدق؛ لأن ذلك مما يشق. وقوله: "ومن لم يحكم" يجوز في "من" أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط. و "هم" في قوله: "هم الكافرون" ونظائره فصل أو مبتدأ، وكله ظاهر مما تقدم في نظائره.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية