الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 59 ) قوله تعالى: مفاتح فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه جمع مفتح بكسر الميم والقصر، وهو الآلة التي يفتح بها، نحو: منخل ومناخل. والثاني: أنه جمع مفتح بفتح الميم، وهو المكان، ويؤيده تفسير ابن عباس: هي خزائن المطر. والثالث: أنه جمع مفتاح بكسر الميم والألف، وهو الآلة أيضا، إلا أن هذا فيه ضعف من حيث إنه كان ينبغي أن تقلب ألف المفرد ياء، فيقال: "مفاتيح" كدنانير، ولكنه قد نقل في جمع مصباح مصابح، وفي جمع محراب محارب، وفي جمع قرقور قراقر، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مدة في مفرده، كقولهم: دراهيم وصياريف، في جمع درهم وصيرف، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1938 - تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف [ ص: 660 ]



                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا: عيل وعياييل. قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1939 - فيها عياييل أسود ونمر



                                                                                                                                                                                                                                      الأصل: عيايل ونمور فزاد في ذلك ونقص من هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قرئ: "مفاتيح" بالياء، وهي تؤيد أن مفاتح جمع مفتاح، وإنما حذفت مدته. وجوز الواحدي أن يكون مفاتح جمع مفتح بفتح الميم على أنه مصدر، قال بعد كلام حكاه عن أبي إسحاق: "فعلى هذا مفاتح جمع المفتح بمعنى الفتح"، كأن المعنى: "وعنده فتوح الغيب"؛ أي: هو يفتح الغيب على من يشاء من عباده. وقال أبو البقاء : "مفاتح جمع مفتح، والمفتح: الخزانة، فأما ما يفتح به فهو المفتاح، وجمعه مفاتيح، وقد قيل: مفتح أيضا" انتهى. يريد: جمع مفتح؛ أي: بفتح الميم. وقوله: "وقد قيل: مفتح، يعني: أنها لغة قليلة في الآلة والكثير فيها المد"، وكان ينبغي أن يوضح عبارته، فإنها موهمة ولذلك شرحتها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: لا يعلمها إلا هو في محل نصب على الحال من "مفاتح"، والعامل فيها الاستقرار الذي تضمنه حرف الجر لوقوعه خبرا. وقال أبو البقاء : "نفس الظرف إن رفعت به مفاتح"؛ أي: إن رفعته به فاعلا، وذلك على رأي الأخفش، وتضمنه للاستقرار لا بد منه على كل قول، فلا فرق بين أن ترفع به الفاعل أو تجعله خبرا. [ ص: 661 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من ورقة" فاعل "تسقط"، و "من" زائدة لاستغراق الجنس، وقوله: " لا يعلمها " حال من "ورقة"، وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النفي، والتقدير: ما تسقط من ورقة إلا عالما هو بها، كقولك: "ما أكرمت أحدا إلا صالحا"، ويجوز عندي أن تكون الجملة نعتا لـ "ورقة"، وإذا كانوا أجازوا في قوله: إلا ولها كتاب معلوم أن تكون نعتا لقرية في قوله: وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم مع كونها بالواو، ويعتذرون عن زيادة الواو، فأن يجيزوا ذلك هنا أولى، وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جر على اللفظ أو رفع على المحل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولا حبة" عطف على لفظ "ورقة"، ولو قرئ بالرفع لكان على الموضع. و "في ظلمات" صفة لحبة. وقوله: "ولا رطب ولا يابس" معطوفان أيضا على لفظ "ورقة"، وقرأهما ابن السميفع، والحسن، وابن أبي إسحاق بالرفع على المحل، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن يكونا مبتدأين، والخبر قوله: "إلا في كتاب مبين". ونقل الزمخشري أن الرفع في الثلاثة، أعني: قوله: "ولا حبة ولا رطب ولا يابس"، وذكر وجهي الرفع المتقدمين، ونظر الوجه الثاني بقولك: "لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلا في كتاب مبين" في هذا الاستثناء غموض، فقال الزمخشري : "وقوله: "إلا في كتاب مبين"، كالتكرير لقوله: "ألا يعلمها"؛ لأن معنى " ألا يعلمها" ومعنى "إلا في كتاب مبين" واحد، والكتاب علم الله [ ص: 662 ] أو اللوح". وأبرزه الشيخ في عبارة قريبة من هذه، فقال: "وهذا الاستثناء جار مجرى التوكيد؛ لأن قوله: "ولا حبة ولا رطب ولا يابس" معطوف على "من ورقة"، والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول: "ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا أمرأة"، فالمعنى: إلا أكرمتها، ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد، وحسنه كونه فاصلة" انتهى. وجعل صاحب " النظم " الكلام تاما عند قوله: "ولا يابس"، ثم استأنف خبرا آخر بقوله: "إلا في كتاب مبين" بمعنى: وهو في كتاب مبين أيضا. قال: "لأنك لو جعلت قوله: "إلا في كتاب" متصلا بالكلام الأول لفسد المعنى، وبيان فساده في فصل طويل ذكرناه في سورة يونس في قوله: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين " انتهى. قلت: إنما كان فاسد المعنى من حيث اعتقد أنه استثناء آخر مستقل، وسيأتي كيف فساده، أما لو جعله استثناء مؤكدا للأول، كما قاله أبو القاسم لم يفسد المعنى، وكيف يتصور تمام الكلام على قوله تعالى: "ولا يابس"، ويبتدأ بـ "إلا"، وكيف تقع "إلا" هكذا ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقد نحا أبو البقاء لشيء مما قاله الجرجاني، فقال: "إلا في كتاب مبين"؛ أي: إلا هو في كتاب مبين، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه "يعلمها"؛ لأن المعنى يصير: وما تسقط من ورقة ألا يعلمها إلا في كتاب، فينقلب معناه إلى الإثبات؛ أي: لا يعلمها في كتاب، وإذا لم يكن إلا في كتاب وجب أن يعلمها في الكتاب، فإذن يكون الاستثناء الثاني بدلا من الأول؛ أي: وما تسقط من ورقة إلا هي في كتاب وما يعلمها" انتهى. وجوابه ما تقدم من [ ص: 663 ] جعل الاستثناء تأكيدا، وسيأتي هذا مقررا إن شاء الله في سورة يونس؛ لأن له بحثا يخصه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية