الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 31 ) قوله تعالى: بغتة في نصبها أربعة أوجه، أحدها: أنها مصدر في موضع الحال من فاعل "جاءتهم"؛ أي: مباغتة، وإما من مفعوله؛ أي: مبغوتين. الثاني: أنها مصدر على غير الصدر؛ لأن معنى "جاءتهم": بغتتهم بغتة، فهو كقولهم: "أتيته ركضا". الثالث: أنها منصوبة بفعل محذوف من لفظها؛ أي: تبغتهم بغتة. الرابع: بفعل من غير لفظها؛ أي: أتتهم بغتة.

                                                                                                                                                                                                                                      والبغت والبغتة: مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتداد به، ولا جعل بال منه، حتى لو استشعر الإنسان به ثم جاءه بسرعة لا يقال فيه: بغتة، ولذلك قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1898 - إذا بغتت أشياء قد كان قبلها قديما فلا تعتدها بغتات



                                                                                                                                                                                                                                      والألف واللام في "الساعة" للغلبة، كالنجم والثريا؛ لأنها غلبت على يوم القيامة، وسميت القيامة: ساعة؛ لسرعة الحساب فيها على الباري تعالى. وقوله: "قالوا" هو جواب "إذا".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يا حسرتا" هذا مجاز؛ لأن الحسرة لا يتأتى منها الإقبال، وإنما [ ص: 596 ] المعنى على المبالغة في شدة التحسر، وكأنهم نادوا التحسر، وقالوا: إن كان لك وقت فهذا أوان حضورك. ومثله: "يا ويلتا"، والمقصود التنبيه على خطإ المنادي حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "على ما فرطنا" متعلق بالحسرة، و "ما" مصدرية؛ أي: على تفريطنا. والضمير في "فيها" يجوز أن يعود على الساعة، ولا بد من مضاف؛ أي: في شأنها والإيمان بها، وأن يعود على الصفقة المتضمنة في قوله: "قد خسر الذين"، قاله الحسن، أو يعود على الحياة الدنيا، وإن لم [ يجر ] لها ذكر لكونها معلومة، قاله الزمخشري . وقيل: يعود على منازلهم في الجنة إذا رأوها، وهو بعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      والتفريط: التقصير في الشيء مع القدرة على فعله. وقال أبو عبيد: "هو التضييع". وقال ابن بحر: "هو السبق، منه الفارط؛ أي: السابق للقوم، فمعنى فرط بالتشديد: خلى السبق لغيره، فالتضعيف فيه: للسلب، كجلدت البعير، ومنه: "فتهجد به نافلة".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وهم يحملون" الواو للحال، وصاحب الحال الواو في "قالوا"؛ أي: قالوا: يا حسرتنا في حالة حملهم أوزارهم. وصدرت هذه الجملة بضمير مبتدأ ليكون ذكره مرتين، فهو أبلغ، والحمل هنا قيل: مجاز عن مقاساتهم العذاب الذي سببه الأوزار، وقيل: هو حقيقة. وفي الحديث: " إنه يمثل له عمله بصورة قبيحة منتنة الريح فيحملها "، وخص الظهر؛ لأنه يطيق من الحمل ما لا يطيقه غيره من الأعضاء، كالرأس والكاهل، وهذا كما تقدم في [ ص: 597 ] "فلمسوه بأيديهم"؛ لأن اليد أقوى في الإدراك اللمسي من غيرها.

                                                                                                                                                                                                                                      الأوزار: جمع وزر، كحمل وأحمال، وعدل وأعدال. والوزر في الأصل: الثقل، ومنه: وزرته؛ أي: حملته شيئا ثقيلا، ووزير الملك من هذا؛ لأنه يتحمل أعباء ما قلده الملك من مؤونة رعيته وحشمته، ومنه: أوزار الحرب؛ لسلاحها وآلاتها، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1899 - وأعددت للحرب أوزارها     رماحا طوالا وخيلا ذكروا



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الأصل في ذلك: الوزر بفتح الواو والزاي، وهو الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: "كلا لا وزر"، ثم قيل للثقل: وزر تشبيها بالجبل، ثم استعير الوزر للذنب تشبيها به في ملاقاة المشقة منه، والحاصل أن هذه المادة تدل على الرزانة والعصمة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ألا ساء ما يزرون": "ساء" هنا تحتمل أوجهها ثلاثة، أحدها: أنها "ساء" المتصرفة المتعدية، ووزنها حينئذ فعل فتح العين، ومفعولها حينئذ محذوف، وفاعلها "ما"، و "ما" تحتمل ثلاثة أوجه: أن تكون موصولة اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة وهو بعيد، وعلى جعلها اسمية أو نكرة موصوفة تقدر لها عائدا، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور. والتقدير: ألا ساءهم الذي يزرونه، أو شيء يزرونه، أو وزرهم. وبدأ ابن عطية بهذا الوجه، قال: "كما تقول: ساءني هذا الأمر، والكلام خبر مجرد، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1900 - رضيت خطة خسف غير طائلة     فساء هذا رضى يا قيس عيلانا [ ص: 598 ]



                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "ولا يتعين أن تكون "ما" في البيت خبرا مجردا، بل تحتمل الأوجه الثلاثة" انتهى، وهو ظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن تكون للتعجب، فتنتقل من فعل بفتح العين إلى فعل بضمها، فتعطى حكم فعل التعجب: من عدم التصرف والخروج من الخبر المحض إلى الإنشاء، إن قلنا: إن التعجب إنشاء وهو الصحيح، والمعنى: ما أسوأ - أي: أقبح - الذي يزرونه، أو شيئا يزرونه، أو وزرهم. الثالث: أنها بمعنى: بئس، فتكون للمبالغة في الذم فتعطى أحكامها أيضا، ويجري الخلاف في "ما" الواقعة بعدها حسبما ذكر في "بئسما اشتروا". وقد ظهر الفرق بين هذه الأوجه الثلاثة، فإنها في الأول متعدية متصرفة والكلام معها خبر محض، وفي الأخيرين قاصرة جامدة إنشائية. والفرق بين الوجهين الأخيرين أن التعجبية لا يشترط في فاعلها ما يشترط في فاعل بئس. وقال الشيخ: "والفرق بين هذا الوجه - يعني: كونها بمعنى بئس - والوجه الذي قبله - يعني: كونها تعجبية - أنه لا يشترط فيه ما يشترط في فاعل "بئس" من الأحكام، ولا هو جملة منعقدة من مبتدأ وخبر، وإنما هو منعقد من فعل وفاعل". انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهره لا يظهر إلا بتأويل، وهو أن الذم لا بد فيه من مخصوص بالذم وهو مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره، فانعقد من هذه الجملة مبتدأ وخبر، إلا أن لقائل أن يقول: إنما يتأتى هذا على أحد الأعاريب في المخصوص، وعلى تقدير التسليم، فلا مدخل للمخصوص بالذم في جملة الذم بالنسبة إلى كونها فعلية، فحينئذ لا يظهر فرق بينها وبين التعجبية في أن كلا منها منعقدة في فعل وفاعل. [ ص: 599 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية