الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 157 ) وقوله تعالى: وقولهم عطف على "وكفرهم"، و "عيسى" بدل من " المسيح " أو عطف بيان، وكذلك "ابن مريم"، ويجوز أن يكون صفة أيضا، وأجاز أبو البقاء في "رسول الله" هذه الأوجه الثلاثة، إلا أن البدل بالمشتقات قليل. وقد يقال: إن "رسول الله" جرى مجرى الجوامد، وأجاز فيه أن ينتصب بإضمار "أعني"، ولا حاجة إليه. قوله: "شبه لهم": "شبه" مبني للمفعول، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مسند للجار بعده، كقولك: حيل إليه، ولبس عليه. والثاني: أنه مسند لضمير المقتول الذي دل عليه قولهم: "إنا قتلنا"؛ أي: ولكن شبه لهم من قتلوه. فإن قيل: لم لا يجوز أن يعود على المسيح ؟ فالجواب: أن المسيح مشبه به لا مشبه. [ ص: 146 ]

                                                                                                                                                                                                                                      [ قوله ]: "لفي شك منه": "منه" في محل جر صفة لـ "شك" يتعلق بمحذوف، ولا يجوز أن تتعلق فضلة بنفس "شك"؛ لأن الشك إنما يتعدى بـ "في" لا بـ "من"، ولا يقال: إن "من" بمعنى "في"، فإن ذلك قول مرجوح، ولا ضرورة لنا به هنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ما لهم به من علم يجوز في "علم" وجهان، أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية، والعامل أحد الجارين؛ إما "لهم"، وإما "به"، وإذا جعل أحدهما رافعا له تعلق الآخر بما تعلق به الرفع من الاستقرار المقدر. و "من" زائدة لوجود شرطي الزيادة. والوجه الثاني: أن يكون "من علم" مبتدأ زيدت فيه "من" أيضا، وفي الخبر احتمالان، أحدهما: أن يكون "لهم"، فيكون "به" إما حالا من الضمير المستكن في الخبر، والعامل فيها الاستقرار المقدر، وإما حالا من "علم" وإن كان نكرة؛ لتقدمها عليه ولاعتماده على نفي. فإن قيل: يلزم تقدم حال المجرور بالحرف عليه وهو ضرورة لا يجوز في سعة الكلام. فالجواب: أنا لا نسلم ذلك، بل نقل أبو البقاء وغيره أن مذهب أكثر البصريين جواز ذلك، ولئن سلمنا أنه لا يجوز إلا ضرورة، لكن المجرور هنا مجرور بحرف جر زائد، والزائد في حكم المطرح، وأما أن يتعلق بمحذوف على سبيل البيان؛ أي: أعني به، ذكره أبو البقاء، ولا حاجة إليه، ولا يجوز أن يتعلق بنفس "علم"؛ لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه. والاحتمال الثاني: أن يكون "به" هو الخبر، و "لهم" متعلق بالاستقرار كما تقدم، ويجوز أن تكون اللام مبينة مخصصة، كالتي في قوله: ولم يكن له كفوا أحد . وهذه الجملة المنفية تحتمل ثلاثة أوجه: الجر على أنها صفة ثانية لـ "شك"؛ أي: [ ص: 147 ] غير معلوم. الثاني: النصب على الحال من "شك"، وجاز ذلك وإن كان نكرة؛ لتخصصه بالوصف بقوله: "منه". الثالث: الاستئناف، ذكره أبو البقاء، وهو بعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلا اتباع الظن" في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: وهو الصحيح الذي لم يذكر الجمهور غيره، أنه منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، ولم يقرأ فيما علمت إلا بنصب "اتباع" على أصل الاستثناء المنقطع، وهي لغة الحجاز، ويجوز في تميم الإبدال من "علم" لفظا فيجر، أو على الموضع فيرفع؛ لأنه مرفوع المحل كما قدمته لك، و "من" زائدة فيه. والثاني - قاله ابن عطية -: أنه متصل، قال: إذ العلم والظن يضمهما جنس أنهما من معتقدات اليقين، يقول الظان على طريق التجوز: علمي في هذا الأمر كذا، إنما يريد: ظني. انتهى. وهذا غير موافق عليه؛ لأن الظن ما ترجح فيه أحد الطرفين، واليقين ما جزم فيه بأحدهما، وعلى تقدير التسليم فاتباع الظن ليس من جنس العلم، بل هو غيره، فهو منقطع أيضا؛ أي: ولكن اتباع الظن حاصل لهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وما قتلوه يقينا" الضمير في "قتلوه" فيه أقوال، أظهرها: أنه لعيسى، وعليه جمهور المفسرين. والثاني: - وبه قال ابن قتيبة والفراء - أنه يعود على العلم؛ أي: ما قتلوا العلم يقينا، على حد قولهم: قتلت العلم والرأي يقينا، وقتلته علما، ووجه المجاز فيه أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء، فكأنه قيل: وما كان علمهم علما أحيط به، إنما كان عن ظن وتخمين. الثالث: - وبه قال ابن عباس، والسدي، وطائفة كبيرة - أنه يعود [ ص: 148 ] للظن، تقول: قتلت هذا الأمر علما ويقينا؛ أي: تحققت، فكأنه قيل: وما صح ظنهم عندهم وما تحققوه يقينا، ولا قطعوا الظن باليقين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يقينا" فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه نعت مصدر محذوف؛ أي: قتلا يقينا. الثاني: أنه مصدر من معنى العامل قبله كما تقدم مجازه؛ لأنه في معناه؛ أي: وما تيقنوه يقينا. الثالث: أنه حال من فاعل "قتلوه"؛ أي: وما قتلوه متيقنين لقتله. الرابع: أنه منصوب بفعل من لفظه حذف للدلالة عليه؛ أي: ما تيقنوه يقينا، ويكون مؤكدا لمضمون الجملة المنفية قبله. وقدر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتا، فقال: تقديره: تيقنوا ذلك يقينا. وفيه نظر. الخامس: - وينقل عن أبي بكر بن الأنباري - أنه منصوب بما بعد "بل" من قوله: "رفعه الله"، وأن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ أي: بل رفعه الله إليه يقينا، وهذا قد نص الخليل فمن دونه على منعه؛ أي: إن "بل" لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فينبغي ألا يصح عنه، وقوله: "بل رفعه الله إليه" رد لما ادعوه من قتله وصلبه. والضمير في "إليه" عائد على "الله" على حذف مضاف؛ أي: إلى سمائه ومحل أمره ونهيه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية