الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 73 ) قوله تعالى: ليقولن الجمهور على فتح لام "ليقولن"؛ لأنه فعل مسند إلى ضمير "من" مبني على الفتح لأجل نون التوكيد. وقرأ الحسن بضمها، فأسند الفعل إلى ضمير "من" أيضا، لكن حملا له على معناها، والأصل: ليقولونن، وقد تقدم تصريفه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: كأن لم تكن هذه "كأن" المخففة من الثقيلة، وعملها باق عند [ ص: 30 ] البصريين، وزعم الكوفيون أنها حين تخفيفها لا تعمل كما لا تعمل "لكن" مخففة عند الجمهور، وإعمالها عند البصريين غالبا في ضمير الأمر والشأن، وهو واجب الحذف، ولا تعمل عندهم في ضمير غيره، ولا في اسم ظاهر إلا ضرورة، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1605 - وصدر مشرق النحر كأن ثدييه حقان



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      1606 - ويوما توافينا بوجه مقسم     كأن ظبية تعطوا إلى وارق السلم

                                                                                                                                                                                                                                      في إحدى الروايات، وظاهر كلام سيبويه أنها تعمل في غير ضمير الشأن في غير الضرورة، ونصه يطالع في كتابه. والجملة المنفية بعدها في محل رفع خبر لها، والجملة بعدها إن كانت فعلية فتتلقى بـ "قد"، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1607 - لا يهولنك اصطلاؤك للحر     ب فمحذورها كأن قد ألما [ ص: 31 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أو بـ "لم" كهذه الآية، وقوله: كأن لم تغن بالأمس ، وقد تلقيت بـ "لما" في قول عمار الكلبي:


                                                                                                                                                                                                                                      1608 - بددت منها الليالي شملهم     فكأن لما يكونوا قبل ثم

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: ويحتاج مثل هذا إلى سماع من العرب. وقال ابن عطية: و "كأن" مضمنة معنى التشبيه، ولكنها ليست كالثقيلة في الاحتياج إلى الاسم والخبر، وإنما تجيء بعدها الجمل. وظاهر هذه العبارة أنها لا تعمل حين تخفيفها، وقد تقدم أن ذلك قول الكوفيين لا البصريين، ويحتمل أنه أراد بذلك أن الجملة بعدها لا تتأثر بها لفظا؛ لأن اسمها محذوف، والجملة خبر لها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وحفص : "يكن" بالياء؛ لأن المودة في معنى الود، ولأنه قد فصل بينها وبين فعلها، والباقون بالتاء اعتبارا بلفظها. و "يكون" تحتمل أن تكون تامة، فيتعلق الظرف بها أو بمحذوف؛ لأنه حال من "مودة"؛ إذ هو في الأصل صفة نكرة قدم عليها، وأن تكون ناقصة فيتعلق الظرف بمحذوف على أنه خبرها.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف الناس في هذه الجملة على ثلاثة أقوال: الأول: أنها [ ص: 32 ] لا محل لها من الإعراب اعتراضية، وعلى هذا فما المعترض بينهما ؟ وجهان: الأول منهما: أنها معترضة بين جملة الشرط التي هي "فإن أصابتكم"، وبين جملة القسم التي هي "ولئن أصابكم " والتقدير: فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا، كأن لم تكن بينكم وبينه مودة، ولئن أصابكم فضل، فأخرت الجملة المعترض بها - أعني: قوله: كأن لم تكن بينكم - والنية بها التوسط، وهذا قول الزجاج وتبعه الماتريدي. ورد الراغب الأصبهاني هذا القول بأنه مستقبح؛ لأنه لا يفصل بين بعض الجملة وبعض ما يتعلق بجملة أخرى. قلت: هذا من الزجاج كأنه تفسير معنى لا إعراب، يدل على ذلك ما أذكره عنه من تفسير الإعراب. الثاني من الوجهين: أن تكون معترضة بين القول ومفعوله، والأصل: ليقولن يا ليتني كنت معهم كأن لم تكن، وعلى هذا أكثر الناس، ولكن اختلفت عباراتهم في ذلك، ولا يظهر المعنى إلا بنقل نصوصهم، فلننقلها. فقال الزمخشري: اعتراض بين الفعل الذي هو "ليقولن"، وبين مفعوله وهو "يا ليتني"، والمعنى: كأن لم يتقدم له معكم مودة؛ لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن، والظاهر أنه تهكم؛ لأنهم كانوا أعدى عدو للمؤمنين وأشدهم حسدا لهم، فكيف يوصفون بالمودة إلا على وجه العكس والتهكم ؟ وقال الزجاج: هذه الجملة اعتراض، أخبر تعالى بذلك؛ لأنهم كانوا يوادون المؤمنين. وقال ابن عطية: المنافق يعاطي [ ص: 33 ] المؤمنين المودة ويعاهد على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقا وشكا وكفرا بالله ورسوله، ثم يتمنى عندما ينكشف الغيب الظفر للمؤمنين، فعلى هذا يجيء قوله تعالى: كأن لم تكن ، التفاتة بليغة واعتراضا بين القول والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم. وقال الرازي: هو اعتراض في غاية الحسن؛ لأن من أحب إنسانا فرح لفرحه وحزن لحزنه، فإذا قلب القضية فذلك إظهار للعداوة، فحكى تعالى سرور المنافق عند نكبة المسلمين، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب فواته الغنيمة، فقبل أن يذكر الكلام بتمامه ألقى قوله: "كأن لم تكن"، والمراد التعجب، كأنه يقول: انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق، كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ولا مخالطة أصلا، والذي حسن الاعتراض بهذه الجملة - وإن كان محلها التأخير - كون ما بعدها فاصلة وهي ليست بفاصلة. وقال الفارسي: هذه الجملة من قول المنافقين للذين أقعدوهم عن الجهاد وخرجوا هم، كأن لم تكن بينكم وبينه - أي: وبين الرسول عليه السلام - مودة، فيخرجكم معه لتأخذوا من الغنيمة، ليبغضوا بذلك الرسول إليهم، فأعاد الضمير في "بينه" على النبي عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وتبع الفارسي في ذلك مقاتلا، قال مقاتل: معناه: كأنه ليس من أهل ملتكم ولا مودة بينكم، يريد: أن المبطئ قال لمن تخلف عن الغزو من المنافقين وضعفة المؤمنين ومن تخلف بإذن؛ كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة فيخرجكم إلى الجهاد فتفوزوا بما فاز.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني من الأقوال: أنها في محل نصب بالقول، فيكون تعالى قد حكى بالقول جملتين: جملة التشبيه وجملة التمني، وهذا ظاهر على قول مقاتل والفارسي، حيث زعما أن الضمير في "بينه" للرسول عليه السلام. [ ص: 34 ]

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في "ليقولن"، كما تقول: مررت بزيد وكأن لم يكن بينك وبينه معرفة فضلا عن مودة، ونقل هذا عن الزجاج، وتبعه أبو البقاء في ذلك. وإنما أطلت النفس في هذه الآية؛ لأني رأيت أقوال الناس فيها منتشرة فضممتها.

                                                                                                                                                                                                                                      و "يا" فيها قولان، أحدهما: - وهو قول الفارسي - أنها لمجرد التنبيه، فلا يقدر منادى محذوف، ولذلك باشرت الحرف. والثاني: أن المنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء ليتني، وهذا الخلاف جار فيها إذا باشرت حرفا أو فعلا، كقراءة الكسائي: "إلا يا اسجدوا"، وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1609 - إلا يا اسقياني قبل غارة سنجال      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1610 - يا حبذا جبل الريان من جبل      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      على القول بفعلية "حبذا"، ولا يفعل ذلك إلا بـ "يا" خاصة دون سائر حروف النداء؛ لأنها أم الباب، وقد كثرت مباشرتها لـ "ليت" دون سائر الحروف.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 35 ] قوله: "فأفوز" الجمهور على نصبه في جواب التمني، والكوفيون يزعمون نصبه بالخلاف، والجرمي يزعم نصبه بنفس الفاء، والصحيح الأول؛ لأن الفاء تعطف هذا المصدر المؤول من "أن" والفعل على مصدر متوهم؛ لأن التقدير: يا ليت لي كونا معهم - أو مصاحبتهم - ففوزا، ولهذه المذاهب - تصحيحا وإبطالا - موضوع غير هذا قد نبهت عليه غير مرة. وقرأ الحسن : "فأفوز" رفعا على أحد وجهين: إما الاستئناف؛ أي: فأنا أفوز، أو عطفا على "كنت" فيكون داخلا في حيز التمني أيضا، فيكون الكون معهم والفوز العظيم متمنين جميعا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية