الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 33 ) قوله تعالى: قد نعلم "قد" هنا حرف تحقيق. وقال الزمخشري والتبريزي: "قد نعلم: بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته، نحو قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1902 - ... ... ... ... قد يهلك المال نائله

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 602 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "وهذا القول غير مشهور للنحاة، وإن قال به بعضهم مستدلا بقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1903 - قد أترك القرن مصفرا أنامله     كأن أثوابه مجت بفرصاد



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله     ولكنه قد يهلك المال نائله



                                                                                                                                                                                                                                      والذي يظهر أن التكثير لا يفهم من "قد"، إنما فهم من سياق الكلام؛ إذ التمدح بقتل قرن واحد غير طائل، وعلى تقدير ذلك هو متعذر في الآية؛ لأن علمه تعالى لا يقبل التكثير". قلت: قد يجاب عنه بأن التكثير في متعلقات العلم لا في العلم، ثم قال: "وقوله: بمعنى "ربما" التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته، المشهور أن "رب" للتقليل لا للتكثير، وزيادة "ما" عليها لا يخرجها عن ذلك، بل هي مهيئة لدخولها على الفعل، و "ما" المهيئة لا تزيل الكلمة عن معناها الأصلي، كما لا تزيل "لعل" عن الترجي، ولا "كأن" عن التشبيه، ولا "ليت" عن التمني. وقال ابن مالك "قد" كـ "ربما" في التقليل والصرف إلى معنى المضي، وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد، نحو: قد نعلم إنه ليحزنك ، وقد تعلمون أني رسول الله ، وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1904 - وقد تدرك الإنسان رحمة ربه     ولو كان تحت الأرض سبعين واديا



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تخلو من التقليل وهي صارفة لمعنى المضي، نحو قوله: "قد نرى [ ص: 603 ] تقلب وجهك".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مكي : "قد" هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه. و "نعلم" بمعنى علمنا، وقد تقدم الكلام في هذا الحرف، وأنها مترددة بين الحرفية والاسمية. وقال الشيخ هنا: "قد حرف توقع، إذا دخلت على مستقبل الزمان كان التوقع من المتكلم، كقولك: "قد ينزل المطر شهر كذا"، وإذا كان ماضيا أو فعل حال بمعنى المضي كان التوقع عند السامع، وأما المتكلم فهو موجب ما أخبر به، وعبر هنا بالمضارع؛ إذا المراد الاتصاف بالعلم واستمراره، ولم يلحظ فيه الزمان كقولهم: "هو يعطي ويمنع".

                                                                                                                                                                                                                                      و "إنه ليحزنك" ساد مسد المفعولين، فإنها معلقة عن العمل، وكسرت لدخول اللام في خبرها. وتقدم الكلام في "ليحزنك"، وأنه قرئ بفتح الياء وضمها من حزنه وأحزنه في آل عمران. و "الذي يقولون" فاعل وعائده محذوف؛ أي: الذي يقولونه من نسبتهم إلى ما لا يليق به، والضمير في "إنه" ضمير الشأن والحديث، والجملة بعده خبر مفسرة له، ولا يجوز في هذا المضارع أن يقدر باسم فاعل رافع لفاعل، كما يقدر في قولك: "إن زيدا يقوم أبوه"؛ لئلا يلزم تفسير ضمير الشأن بمفرد، وقد تقدم أنه ممنوع عند البصريين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لا يكذبونك" قرأ نافع والكسائي : "لا يكذبونك" مخففا من أكذب، والباقون مثقلا من كذب، وهي قراءة علي وابن عباس. واختلف الناس في ذلك، فقيل: هما بمعنى واحد، مثل: أكثر وكثر، ونزل وأنزل، [ ص: 604 ] وقيل: بينهما فرق، قال الكسائي: "العرب تقول: "كذبت الرجل" بالتشديد: إذا نسبت الكذب إليه، و "أكذبته": إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه، ويقولون أيضا: أكذبت الرجل: إذا وجدته كاذبا، كأحمدته: إذا وجدته محمودا، فمعنى "لا يكذبونك" مخففا: لا ينسبون الكذب إليك ولا يجدونك كاذبا"، وهو واضح.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما التشديد فيكون خبرا محضا عن عدم تكذيبهم إياه. فإن قيل: هذا محال؛ لأن بعضهم قد وجد منه تكذيب ضرورة. فالجواب: أن هذا وإن كان منسوبا إلى جمعيهم، أعني: عدم التكذيب، فهو إنما يراد به بعضهم مجازا، كقوله: "كذبت قوم نوح"، "كذبت قوم لوط"، وإن كان فيهم من لم يكذبه، فهو عام يراد به الخاص. والثاني: أنه نفى التكذيب لانتفاء ما يترتب عليه من المضار، فكأنه قيل: فإنهم لا يكذبونك تكذيبا يبالى به ويضرك؛ لأنك لست بكاذب، فتكذيبهم كل تكذيب، فهو من نفي السبب لانتفاء مسببه. وقال الزمخشري : "والمعنى: أن تكذيبك أمر راجع إلى الله؛ لأنك رسوله المصدق، فهم لا يكذبونك في الحقيقة، إنما يكذبون الله بجحود آياته، فانته عن حزنك، كقول السيد لغلامه: - وقد أهانه بعض الناس - لن يهينوك وإنما أهانوني، وعلى هذه الطريقة: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بآيات الله" يجوز في هذا الجار وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ "يجحدون"، وهو الظاهر الذي ينبغي أن يعدل عنه، وجوز أبو البقاء أن [ ص: 605 ] يتعلق بالظالمين، قال: "كقوله تعالى: وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها "، وهذا الذي قاله ليس بجيد؛ لأن الباء هناك سببية؛ أي: ظلموا بسببها، والباء هنا معناها التعدية، وهنا شيء يتعلق به تعلقا واضحا، فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه. وفي هذه الآية إقامة الظاهر مقام المضمر؛ إذ الأصل: ولكنهم يجحدون بآيات الله، ولكنه نبه على أن الظلم هو الحامل لهم على الجحود.

                                                                                                                                                                                                                                      والجحود والجحد: نفي ما في القلب ثباته، أو إثبات ما في القلب نفيه. وقيل: الجحد: إنكار المعرفة، فليس مرادفا للنفي من كل وجه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية