الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 16 ) قوله تعالى: من يصرف "من" شرطية، ومحلها يحتمل الرفع والنصب، كما سيأتي بيانه بعد ذكر القراءتين، فنقول: قرأ الأخوان وأبو بكر عن عاصم: "يصرف" بفتح الياء وكسر الراء على تسمية الفاعل، والباقون بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما القراءة الأولى فـ "من" فيها تحتمل الرفع والنصب: فالرفع من وجه واحد وهو الابتداء، وخبرها فعل الشرط أو الجواب أو هما، على حسب الخلاف، وفي مفعول "يصرف" حينئذ احتمالان، أحدهما: أنه مذكور وهو "يومئذ"، ولا بد من حذف مضاف؛ أي: من يصرف الله عنه هول يومئذ - أو عذاب يومئذ - فقد رحمه، فالضمير في "يصرف" يعود على الله تعالى، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب: "من يصرف الله" بالتصريح به. والضميران في "عنه" و "رحمة" لـ "من". والثاني: أنه محذوف لدلالة ما ذكر [ ص: 560 ] عليه قبل ذلك؛ أي: من يصرف الله عنه العذاب. و "يومئذ" منصوب على الظرف. وقال مكي : "ولا يحسن أن تقدر هاء؛ لأن الهاء إنما تحذف من الصلات". قلت: يعني: أنه لا يقدر المفعول ضميرا عائدا على عذاب يوم؛ لأن الجملة الشرطية عنده صفة لـ "عذاب" والعائد منها محذوف، لكن الحذف إنما يكون من الصلة لا من الصفة، وهذا معنى قول الواحدي أيضا، إلا أن قول مكي: "إنما يحذف من الصلات"، يريد: في الأحسن، وإلا فيحذف من الصفات والأخبار والأحوال، ولكنه دون الصلة.

                                                                                                                                                                                                                                      والنصب من وجهين، أحدهما: أنه مفعول مقدم لـ "يصرف"، والضمير في "عنه" على هذا يتعين عوده على العذاب المتقدم، والتقدير: أي شخص يصرف الله عن العذاب. والثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعل مضمر لا يبرز، يفسره هذا الظاهر من معناه لا من لفظه، والتقدير: من نكرم أو من ننج يصرف الله. والضمير في "عنه" للشرطية. وأما مفعول "يصرف" على هذا فيحتمل الوجهين المتقدمين، أعني: كونه مذكورا وهو "يومئذ" على حذف مضاف، أو محذوفا اختصارا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما القراءة الثانية فـ "من" تحتمل وجهين، أحدهما: أنها في محل رفع بالابتداء، وخبره ما بعده على ما تقدم، والفاعل المحذوف هو الله تعالى، يدل عليه قراءة أبي المتقدمة، وفي القائم مقامه أربعة أوجه، أحدهما: أنه ضمير العذاب، والضمير في "عنه" يعود على "من" فقط، والظرف فيه حينئذ ثلاثة أوجه، أحدها: أنه منصوب بـ "يصرف". الثاني: أنه منصوب بالعذاب؛ أي: الذي قام ضميره مقام الفاعل، قاله أبو البقاء ، ويلزم [ ص: 561 ] منه إعمال المصدر مضمرا، وقد يقال: يغتفر ذلك في الظروف. الثالث: قال أبو البقاء : "إنه حال من الضمير". قلت: يعني: الضمير الذي قام مقام الفاعل، وجاز وقوع الحال ظرف زمان؛ لأنها عن معنى لا عن جثة.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني من الأوجه الأربعة: أن القائم الفاعل ضمير "من"، والضمير في "عنه" يعود على العذاب، والظرف منصوب: إما بـ "يصرف"، وإما على الحال من هاء "عنه". والثالث من أوجه العامل في "يومئذ" متعذر هنا وهو واضح، والتقدير: أي شخص يصرف هو عن العذاب. الثالث: أن القائم مقام الفاعل "يومئذ"، إما على حذف مضاف؛ أي: من يصرف عنه فزع يومئذ، أو هول يومئذ، وإما على قيام الظرف دون مضاف، كقولك: "سير يوم الجمعة"، وإنما بني "يومئذ" على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، ولو قرئ بالرفع لكان جائزا في الكلام، وقد قرئ: "ومن خزي يومئذ" فتحا وجرا بالاعتبارين، وهما اعتباران متغايران، فإن قيل: يلزم على عدم تقدير حذف المضاف إقامة الظرف غير التام مقام الفاعل، وقد نصوا على أن الظرف المقطوع عن الإضافة لا يخبر به ولا يقوم مقام فاعل، لو قلت: "ضرب قبل" لم يجز، والظرف هنا في حكم المقطوع عن الإضافة، فلا يجوز قيامه مقام الفاعل إلا على حذف مضاف، فالجواب: أن هذا في قوة الظرف المضاف؛ إذ التنوين عوض عنه، وهذا ينتهض على رأي الجمهور، أما الأخفش فلا؛ لأن التنوين عنده تنوين صرف والكسر كسر إعراب، وقد أوضحت ذلك إيضاحا شافيا في غير هذا الموضوع. [ ص: 562 ]

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن القائم مقامه "عنه"، والضمير في "عنه" يعود على "من"، و "يومئذ" منصوب على الظرف، والعامل فيه "يصرف". ولا يجوز الوجهان الأخيران، أعني: نصبه على الحال؛ لأن الضمير للجثة، والزمان لا يقع حالا عنهما كما لا يقع خبرا، وأعني: كونه معمولا للعذاب؛ إذ ليس هو قائما مقام الفاعل.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني من وجهي "من": أنها في محل نصب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده، وهذا إذا جعلنا "عنه" في محل نصب بأن يجعل القائم مقام الفاعل: إما ضمير العذاب وإما "يومئذ"، والتقدير: من يكرم الله أو من ينج يصرف عنه العذاب أو هول يومئذ، ونظيره: "زيد مر به مرور حسن"، أقمت المصدر فبقي "عنه" منصوب المحل، والتقدير: جاوزت زيدا مر به مرور حسن. وأما إذا جعل "عنه" قائما مقام الفاعل تعين رفعه بالابتداء.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أنه متى قلت: منصوب على الاشتغال، فإنما يقدر بعد "من"؛ لأن لها صدر الكلام، ولذلك لم أظهره إلا مؤخرا، ولهذه العلة منع بعضهم الاشتغال فيما له صدر الكلام، كالاستفهام والشرط. والتنوين في "يومئذ" عوض عن جملة محذوفة تضمنها الكلام السابق، التقدير: يوم إذ يكون الجزاء، وإنما قلت كذلك؛ لأنه لم يتقدم في الكلام جملة مصرح بها يكون التنوين عوضا منها، وقد تقدم خلاف الأخفش.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الجملة الشرطية يجوز فيها وجهان: الاستئناف والوصف لـ "عذاب يوم"، فحيث جعلنا فيها ضميرا يعود على عذاب يوم، إما من "يصرف"، وإما من "عنه"، جاز أن تكون صفة، وهو الظاهر، وأن تكون مستأنفة، وحيث لم نجعل فيها ضميرا يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تعين أن تكون مستأنفة، ولا يجوز أن تكون صفة لخلوها من الضمير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تكلم الناس في ترجيح إحدى هاتين القراءتين على الأخرى، وذلك [ ص: 563 ] على عادتهم، فقال أبو علي الفارسي: "قراءة "يصرف"، يعني: المبني للفاعل، أحسن لمناسبة قوله: "رحمه". يعني: أن كلا منهما مبني للفاعل، ولم يقل: "فقد رحم". واختارها أبو حاتم وأبو عبيد، ورجح بعضهم قراءة المبني للمفعول بإجماعهم على قراءة قوله: ليس مصروفا عنهم ، يعني: في كونه أتى بصيغة اسم المفعول المسند إلى ضمير العذاب المذكور أولا. ورجحها محمد بن جرير بأنها أقل إضمارا. ومكي - رحمه الله - تلعثم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين، وأتى بأمثلة فاسدة في كتاب " الهداية " له، قاله ابن عطية . وقد قدمت أول الكتاب عن العلماء ثعلب وغيره أن ذلك - أعني: ترجيح إحدى القراءات المتواترة على الأخرى بحيث تضعف الأخرى - ولا يجوز. والجملة من قوله: "فقد رحمه" في محل جزم على جواب الشرط، والفاء واجبة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وذلك الفوز" مبتدأ وخبر، جيء بهذه الجملة مقررة لما تقدم من مضمون الجملة قبلها، والإشارة بـ "ذلك" إلى المصدر المفهوم من قوله: "يصرف"؛ أي: ذلك الصرف. و "المبين" يحتمل أن يكون متعديا، فيكون المفعول محذوفا؛ أي: المبين غيره، وأن يكون قاصرا بمعنى يبين، وقد تقدم أن "أبان" يكون قاصرا بمعنى ظهر، ومتعديا بمعنى أظهر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية