الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 107 ) قوله تعالى: فإن عثر : مبني للمفعول، والقائم مقام فاعله الجار بعده؛ أي: فإن اطلع على استحقاقهما الإثم، يقال: [ عثر الرجل [ ص: 471 ] يعثر ] عثورا: إذا هجم على شيء لم يطلع عليه غيره، وأعثرته على كذا: أطلعته عليه، ومنه قوله تعالى: "أعثرنا عليهم". قال أهل اللغة: "وأصله من "عثرة الرجل" وهي الوقوع، وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، فإن عثر به اطلع عليه ونظر ما هو، فقيل لكل أمر كان خفيا ثم اطلع عليه: "عثر عليه". وقال الليث: "عثر يعثر عثورا: هجم على أمر لم يهجم عليه غيره، وعثر يعثر عثرة: وقع على شيء، ففرق بين الفعلين بمصدريهما. وفرق أبو البقاء بينهما بغير ذلك، فقال: "عثر مصدره العثور، ومعناه: اطلع، فأما "عثر" في مشية ومنطقه ورأيه فالعثار". والراغب جعل المصدرين على حد سواء، فإنه قال: "عثر الرجل بالشيء يعثر عثورا وعثارا: إذا سقط عليه، ويتجوز به فيمن يطلع على أمر من غير طلبه، يقال: "عثرت على كذا"، وقوله: وكذلك أعثرنا عليهم ؛ أي: وقفناهم عليهم من غير أن طلبوا".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: "فآخران" فيه أربعة أوجه، [ الأول ]: أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر، تقديره: فالشاهدان آخران، والفاء جواب الشرط، دخلت على الجملة الاسمية، والجملة من قوله: "يقومان" محل رفع صفة لـ "آخران". الثاني: أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره: فليشهد آخران، ذكره مكي وأبو البقاء ، وقد تقدم أن الفعل لا يحذف وحده إلا في مواضع ذكرتها عند قوله: "حين الوصية اثنان". الثالث: أنه خبر مقدم، و "الأوليان" مبتدأ [ ص: 472 ] مؤخر، والتقدير: فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان مقامهما، ذكر ذلك أبو علي. قال: "ويكون كقولك: "تميمي أنا". الرابع: أنه مبتدأ، وفي الخبر حينئذ احتمالات، أحدها: قوله: "من الذين استحق"، وجاز الابتداء به لتخصصه بالوصف وهو الجملة من "يقومان"، والثاني: أن الخبر "يقومان"، و "من الذين استحق" صفة المبتدإ، ولا يضر الفصل بالخبر بين الصفة وموصوفها، والمسوغ أيضا للابتداء به اعتماده على فاء الجزاء. وقال أبو البقاء لما حكى رفعه بالابتداء: "وجاز الابتداء هنا بالنكرة لحصول الفائدة"، فإن عنى أن المسوغ مجرد الفائدة من غير اعتبار مسوغ من المسوغات التي ذكرتها فغير مسلم. الثالث: أن الخبر قوله: " الأوليان" نقله أبو البقاء ، وقوله: "يقومان" و "من الذين استحق" كلاهما في محل رفع صفة لـ "آخران"، ويجوز أن يكون أحدهما صفة والآخر حالا، وجاءت الحال من النكرة لتخصصها بالوصف. وفي هذا الوجه ضعف من حيث إنه إذا اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة محدثا عنها والنكرة حديثا، وعكس ذلك قليل جدا أو ضرورة، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1829 - ... ... ... ... يكون مزاجها عسل وماء



                                                                                                                                                                                                                                      [ وكقوله ]:


                                                                                                                                                                                                                                      1830 - وإن حراما أن أسب مجاشعا     بآبائي الشم الكرام الخضارم [ ص: 473 ]



                                                                                                                                                                                                                                      وقد فهمت مما تقدم أن الجملة من قوله: "يقومان"، والجار من قوله: "من الذين": إما مرفوع المحل صفة لـ "آخران" أو خبر عنه، وإما منصوبه على الحال: إما من نفس "آخران"، أو من الضمير المستكن في "آخران"، ويجوز في قوله: "من الذين" أن يكون حالا من فاعل "يقومان".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "استحق" قرأ الجمهور: "استحق" مبنيا للمفعول، "الأوليان" رفعا، وحفص عن عاصم: "استحق" مبنيا للفاعل، "الأوليان" كالجماعة، وهي قراءة عبد الله بن عباس وأمير المؤمنين علي رضي الله عنهم، ورويت عن ابن كثير أيضا، وحمزة وأبو بكر عن عاصم: "استحق" مبنيا للمفعول كالجماعة، "الأولين" جمع "أول" جمع المذكر السالم، والحسن البصري: "استحق" مبنيا للفاعل، "الأولان" مرفوعا تثنية "أول"، وابن سيرين كالجماعة، إلا أنه نصب الأوليين تثنية "أولى". وقرئ: " الأولين" بسكون الواو وفتح اللام وهو جمع "أولى"، كالأعلين في جمع "أعلى". ولما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الموضوع قال: "هذا موضع من أصعب ما في القرآن إعرابا". قلت: ولعمري إن القول ما قالت حذام، فإن الناس قد دارت رؤوسهم في فك هذا التركيب، وقد اجتهدت - بحمد الله تعالى - فلخصت الكلام فيها أحسن تلخيص، ولا بد من ذكر شيء من معاني الآية لنستضيء به على الإعراب فإنه خادم لها.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة الجمهور فرفع "الأوليان" فيها من أوجه، أحدها: أنه مبتدأ، وخبره "آخران"، تقديره: فالأوليان بأمر الميت آخران، وقد تقدم شرح هذا. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر؛ أي: هما الأوليان، كأن سائلا سأل فقال: "من الآخران" ؟ فقيل: هما الأوليان. الثالث: أنه بدل من "آخران"، وهو بدل في [ ص: 474 ] معنى البيان للمبدل منه، نحو: "جاء زيد أخوك"، وهذا عندهم ضعيف؛ لأن الإبدال بالمشتقات يقل. الرابع: أنه عطف بيان لـ "آخران" بين الآخرين بالأوليين. فإن قلت: شرط عطف البيان أن يكون التابع والمتبوع متفقين في التعرف والتنكير، على أن الجمهور على عدم جريانه في النكرة خلافا أبي علي، و "آخران" نكرة، و "الأوليان" معرفة. قلت: هذا سؤال صحيح، ولكن يلزم الأخفش ويلزم الزمخشري جوازه: أما الأخفش فإنه يجيز أن يكون "الأوليان" صفة لـ "آخران" بما سأقرره عنه عند تعرضي لهذا الوجه، والنعت والمنعوت يشترط فيهما التوافق، فإذا جاز في النعت فليجز فيما هو شبيه به؛ إذ لا فرق بينهما إلا اشتراط الاشتقاق في النعت. وأما الزمخشري فإنه لا يشترط ذلك - أعني: التوافق - وقد نص هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى: "مقام إبراهيم" عطف بيان لقوله: "فيه آيات بينات"، و "آيات بينات" نكرة، لكنها لما تخصصت بالوصف قربت من المعرفة، كما قدمته عنه في موضعه، وكذا "آخران" قد وصف بصفتين فقرب من المعرفة أشد من "آيات بينات" من حيث وصفت بصفة واحدة. الخامس: أنه بدل من فاعل "يقومان".

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: أنه صفة لـ "آخران"، أجاز ذلك الأخفش. قال أبو علي: "وأجاز أبو الحسن فيها شيئا آخر، وهو أن يكون "الأوليان" صفة لـ "آخران"؛ لأنه لما وصف تخصص، فمن أجل وصفه وتخصيصه وصف بوصف المعارف". قال الشيخ: "وهذا ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن [ ص: 475 ] يجمعوا عليه من أن النكرة لا توصف بالمعرفة، ولا العكس". قلت: لا شك أن تخالفهما في التعريف والتنكير ضعيف، وقد ارتكبوا ذلك في مواضع، فمنها ما حكاه الخليل: "مررت بالرجل خير منك" في أحد الأوجه في هذه المسألة، ومنها: غير المغضوب عليهم على القول بأن "غير" صفة "الذين أنعمت عليهم"، وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1831 - ولقد أمر على اللئيم يسبني     فمضيت ثمت قلت لا يعنيني



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ، على أن "يسبني" و "نسلخ" صفتان لما قبلها فإن الجمل نكرات، وهذه المثل التي أوردتها عكس ما نحن فيه، فإنها تؤول فيها المعرفة بالنكرة، وما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفة، إلا أن الجامع بينهما التخالف، ويجوز أن يكون ما نحن فيه من هذه المثل باعتبار أن "الأوليين" لما لم يقصد بهما شخصان معينان قربا من النكرة، فوقعا صفة لها مع تخصصها هي، فصار في ذلك مسوغان: قرب النكرة من المعرفة بالتخصيص، وقرب المعرفة من النكرة بالإبهام، ويدل لما قلته ما قال أبو البقاء : "والخامس: أن يكون صفة لـ "آخران"؛ لأنه وإن كان نكرة قد وصف، والأوليان لم يقصد بهما قصد اثنين بأعيانهما".

                                                                                                                                                                                                                                      السابع: أنه مرفوع على ما لم يسم فاعله بـ "استحق"، إلا أن كل من أعربه كذا قدره قبله مضافا محذوفا. واختلفت تقديرات المعربين، فقال: [ ص: 476 ] مكي : "تقديره: استحق عليهم إثم الأوليين"، وكذا أبو البقاء ، وقد سبقهما إلى هذا التقدير ابن جرير الطبري، وقدره الزمخشري فقال: "من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال"، وممن ذهب إلى ارتفاع "الأوليان" بـ "استحق" أبو علي الفارسي، ثم منعه، قال: "لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئا منها، وأما الأوليان بالميت، فلا يجوز أن يستحقا فيسند استحق إليهما". قلت: إنما منع أبو علي ذلك على ظاهر اللفظ، فإن الأوليين لم يستحقهما أحد كما ذكر، ولكن يجوز أن يسند "استحق" إليهما بتأويل حذف المضاف المتقدم. وهذا الذي منعه الفارسي ظاهرا هو الذي حمل الناس على إضمار ذلك المضاف، وتقدير الزمخشري بـ "انتداب الأوليين" أحسن من تقدير غيره، فإن المعنى يساعده، وأما إضمار "الإثم" فلا يظهر أصلا إلا بتأويل بعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز ابن عطية أن يرتفع "الأوليان" بـ " استحق " أيضا، ولكن ظاهر عبارته أنه لم يقدر مضافا، فإنه استشعر باستشكال الفارسي المتقدم فاحتال في الجواب عنه، وهذا نصه، قال ما ملخصه: "إنه حمل "استحق" هنا على الاستعارة، فإنه ليس استحقاقا حقيقة لقوله: "استحقا إثما"، وإنما معناه: أنهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو أهل دينه، فجعل تسورهم عليه استحقاقا مجازا، والمعنى: من الجماعة التي غابت وكان من حقها أن تحضر وليها، فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذه [ ص: 477 ] الحال، وهذان الشاهدان من غير أهل الدين والولاية، وأمر الأوليين على هذه الجماعة، فبني الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازا، ويقوي هذا الفرض تعدي الفعل بـ "على" لما كان باقتدار وحمل هيأته الحال، ولا يقال: استحق منه أو فيه، إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه، وأما "استحق عليه" فبالحمل والغلبة والاستحقاق المستعار" انتهى، فقد أسند "استحق" إلى "الأوليان" من غير تقدير مضاف متأولا له بما ذكر، واحتملت طول عبارته لتتضح.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن مرفوع "استحق" في الأوجه المتقدمة - أعني: غير هذا الوجه، وهو إسناده إلى "الأوليان" - ضمير يعود على ما تقدم لفظا أو سياقا، واختلفت عباراتهم، فيه، فقال الفارسي، والحوفي، وأبو البقاء ، والزمخشري : أنه ضمير الإثم، والإثم قد تقدم في قوله: "استحقا إثما". وقال الفارسي والحوفي أيضا: "استحق هو الإيصاء أو الوصية". قلت: إضمار الوصية مشكل؛ لأنه إذا أسند الفعل إلى ضمير المؤنث مطلقا وجبت التاء إلا في ضرورة، ويونس لا يخصه بها، ولا جائز أن يقال: أضمرا لفظ الوصية؛ لأن ذلك حذف، والفاعل عندهما لا يحذف. وقال النحاس مستحسنا لإضمار الإيصاء: "وهذا أحسن ما قيل فيه؛ لأنه لم يجعل حرف بدلا من حرف"، يعني: أنه لا يقول: إن "على" بمعنى "في"، ولا بمعنى "من" كما قيل بهما، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جمع الزمخشري غالب ما قلته وحكيته من الإعراب والمعنى بأوجز عبارة، فقال: "فـ "آخران"؛ أي: فشاهدان آخران يقومان مقامهما من الذين [ ص: 478 ] استحق عليهم؛ أي: [ من الذين ] استحق عليهم الإثم، ومعناه: من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته، والأوليان الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما، وارتفاعهما على: "هما الأوليان" كأنه قيل: ومن هما ؟ فقيل: الأوليان، وقيل: هما بدل من الضمير في "يقومان" أو من "آخران"، ويجوز أن يرتفعا بـ "استحق"؛ أي: من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "عليهم": في "على" ثلاثة أوجه، أحدها: أنها على بابها، قال أبو البقاء : "كقولك: "وجب عليه الإثم". وقد تقدم عن النحاس أنه لما أضمر الإيصاء بقاها على بابها، واستحسن ذلك. والثاني: أنها بمعنى "في"؛ أي: استحق فيهم الإثم، فوقعت "على" موقع "في" كما تقع "في" موقعها، كقوله تعالى: ولأصلبنكم في جذوع النخل ؛ أي: على جذوع، وكقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1832 - بطل كأن ثيابه في سرحة     يحذى نعال السبت ليس بتوءم



                                                                                                                                                                                                                                      أي: على سرحة. وقدره أبو البقاء فقال: "أي: استحق فيهم الوصية. والثالث: أنها بمعنى "من"؛ أي: استحق منهم الإثم، ومثله قوله تعالى: إذا [ ص: 479 ] اكتالوا على الناس ؛ أي: من الناس. وقدره أبو البقاء فقال: "أي استحق منهما الأوليان، فحين جعلها بمعنى "في" قدر "استحق" مسندا للوصية، وحين جعلها بمعنى "من" قدره مسندا لـ "الأوليان". وكان لما ذكر القائم مقام الفاعل لم يذكر إلا ضمير الإثم والأوليان. وأجاز بعضهم أن يسند "استحق" إلى ضمير المال؛ أي: استحق عليهم المال الموروث، وهو قريب.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد تقرر أن في مرفوع "استحق" خمسة أوجه، أحدها: "الأوليان"، الثاني: ضمير الإيصاء، الثالث: ضمير الوصية، وهو في المعنى كالذي قبله وتقدم إشكاله، الرابع: أنه ضمير الإثم، الخامس: أنه ضمير المال، ولم أرهم أجازوا أن يكون "عليهم" هو القائم مقام الفاعل، نحو: غير المغضوب عليهم ، كأنهم لم يروا فيه فائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة حفص فـ "الأوليان" مرفوع بـ "استحق" ومفعوله محذوف، قدره بعضهم "وصيتهما"، وقدره الزمخشري بـ "أن يجردوهما للقيام بالشهادة"، فإنه قال: "معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة، ويظهروا بها كذب الكاذبين". وقال ابن عطية : "الأوليان" رفع بـ "استحق" وذلك أن يكون المعنى: من الذين استحق عليهم مالهم وتركتهم شاهدا الزور، فسميا أوليين؛ أي: صيرهما عدم الناس أوليين بالميت، وتركته فخانا وجارا فيها، أو يكون المعنى: من الذين حق [ ص: 480 ] عليهم أن يكون الأوليان منهم، فاستحق بمعنى حق، كاستعجب وعجب، أو يكون استحق بمعنى سعى واستوجب، فالمعنى: من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم؛ أي: استحقا لهم وسعيا فيه، واستوجباه بأيمانهما وقربانهما". قال الشيخ - بعد أن حكى عن الزمخشري وأبي محمد ما قدمته عنهما -: "وقال بعضهم: المفعول محذوف تقديره: الذين استحق عليهم الأوليان وصيتهما". قلت: وكذا هو محذوف أيضا في قولي أبي القاسم وأبي محمد، وقد بينتهما ما هما، فهو عند الزمخشري قوله: "أن يجردوهما للقيام بالشهادة"، وعند ابن عطية هو قوله: "ما لهم وتركتهم"، فقوله: "وقال بعضهم: المفعول محذوف" يوهم أنه لم يدر أنه محذوف فيما تقدم أيضا. وممن ذهب إلى أن “استحق" بمعنى "حق" المجرد، الواحدي، فإنه قال: واستحق هنا بمعنى حق؛ أي: وجب، والمعنى: فاخران من الذين وجب عليهم الإيصاء بتوصيته بينهم وهم ورثته"، وهذا التفسير الذي ذكره الواحدي أوضح من المعنى الذي ذكره أبو محمد على هذا الوجه، وهو ظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة حمزة وأبي بكر فمرفوع "استحق" ضمير الإيصاء، أو الوصية، أو المال، أو الإثم، حسبما تقدم، وأما "الأولين" فجمع "أول" المقابل لـ "آخر"، وفيه أربعة أوجه، أحدها: أنه مجرور صفة لـ "الذين". الثاني: أنه بدل منه، وهو قليل لكونه مشتقا. الثالث: أنه بدل من الضمير في "عليهم"، وحسنه هنا، وإن كان مشتقا عدم صلاحية ما قبله للوصف، نقل هذين الوجهين الأخيرين مكي . الرابع: أنه منصوب على المدح، ذكره الزمخشري ، قال: "ومعنى الأولية: التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها"، وإنما [ ص: 481 ] فسر الأولية بالتقدم على الأجانب جريا على ما مر في تفسيره: أو آخران من غيركم: أنهما من الأجانب لا من الكفار. وقال الواحدي: "وتقديره: من الأولين الذين استحق عليهم الإيصاء أو الإثم، وإنما قيل لهم: "الأولين" من حيث كانوا أولين في الذكر، ألا ترى أنه قد تقدم: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ، وكذلك اثنان ذوا عدل منكم ، ذكرا في اللفظ قبل قوله: أو آخران من غيركم ، وكان ابن عباس يختار هذه القراءة ويقول: "أرأيت إن كان الأوليان صغيرين، كيف يقومان مقامهما" ؟ أراد: أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقام الحانثين. ونحا ابن عطية هذا المنحى، قال: "معناه: من القوم الذين استحق عليهم أمرهم؛ أي: غلبوا عليه، ثم وصفهم بأنهم أولون؛ أي: في الذكر في هذه الآية".

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الحسن؛ فالأولان مرفوعان بـ "استحق" فإنه يقرؤه مبنيا للفاعل. قال الزمخشري : "ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي"، ولم يبين من هما الأولان، والمراد بهما: الاثنان المتقدمان في الذكر. وهذه القراءة كقراءة حفص، فيقدر فيها ما ذكر، ثم مما يليق من تقدير المفعول.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة ابن سيرين فانتصابها على المدح، ولا يجوز فيها الجر؛ لأنه: إما على البدل وإما على الوصف بجمع، والأوليين في قراءته مثنى، فتعذر فيها ذلك. وأما قراءة "الأوليين" كالأعلين، فحكاها أبو البقاء قراءة شاذة لم يعزها، قال: "ويقرأ: "الأولين" جمع الأولى، وإعرابه كإعراب الأولين "، يعني: في قراءة حمزة، وقد تقدم أن فيها أربعة أوجه وهي جارية هنا. [ ص: 482 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فيقسمان" نسق على "يقومان" والسببية فيها ظاهرة. و "لشهادتنا أحق": هذه الجملة جواب القسم في قوله: "فيقسمان"، و "ذلك أدنى" لا محل لهذه الجملة لاستئنافها، والمشار إليه الحكم السابق بتفصيله؛ أي: ما تقدم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي. وقيل: المشار إليه: الحبس بعد الصلاة، وقيل: تحليف الشاهدين. و "أن يأتوا" أصله: إلى أن يأتوا. وقدره أبو البقاء بـ "من" أيضا؛ أي: أدنى من أن يأتوا. وقدره مكي بالباء؛ أي: بأن يأتوا، وليسا بواضحين، ثم حذف حرف الجر فنشأ الخلاف المشهور. و "على وجهها" متعلق بـ "يأتوا". وقيل: في محل نصب على الحال منها، وقدره أبو البقاء بـ "محققة وصحيحة"، وهو تفسير معنى؛ لما عرفت غير مرة من أن الأكوان المقيدة لا تقدر في مثله.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أو يخافوا" في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوب عطفا على "يأتوا"، وفي "أو" على هذا تأويلان، أحدهما: أنها على بابها من كونها لأحد الشيئين، والمعنى: ذلك الحكم أقرب إلى حصول الشهادة على ما ينبغي، أو خوف رد الأيمان إلى غيرهم فتسقط أيمانهم. والتأويل الآخر: أن تكون بمعنى الواو؛ أي: ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا، وأقرب إلى أن يخافوا، وهذا مفهوم من قول ابن عباس. الثاني من وجهي النصب: أنه منصوب بإضمار "أن" بعد "أو" ومعناها هنا: "إلا"، كقولهم: "لألزمنك أو تقضيني حقي"، تقديره: إلا أن تقضيني، فـ "أو" حرف عطف على بابها، والفعل بعدها [ ص: 483 ] منصوب بإضمار "أن" وجوبا، و "أن" وما في حيزها مؤولة بمصدر، ذلك المصدر معطوف على مصدر متوهم من الفعل قبله، فمعنى لألزمنك أو تقضيني حقي: ليكونن مني لزوم لك أو قضاؤك لحقي، وكذا المعنى هنا؛ أي: ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادة على وجهها؛ وإلا خافوا رد الأيمان، كذا قدره ابن عطية بواو قبل "إلا"، وهو خلاف تقدير النحاة، فإنهم لا يقدرون "أو" إلا بلفظ "إلا" وحدها دون واو. وكأن "إلا" في عبارته على ما فهمه الشيخ ليست "إلا" الاستثنائية، بل أصلها "إن" شرطية دخلت على "لا" النافية فأدغمت فيها، فإنه قال: "أو تكون "أو" بمعنى "إلا إن"، وهي التي عبر عنها ابن عطية بتلك العبارة من تقديرها بشرط - محذوف فعله - وجزاء" انتهى. وفيه نظر من وجهين، أحدهما: أنه لم يقل بذلك أحد، أعني: كون "أو" بمعنى الشرط. والثاني: أنه بعد أن حكم عليها بأنها بمعنى "إلا إن" جعلها بمعنى شرط حذف فعله.

                                                                                                                                                                                                                                      و "أن ترد" في محل نصب على المفعول به؛ أي: أو يخافوا رد أيمانهم. و "بعد أيمانهم": إما ظرف لـ "ترد"، أو متعلق بمحذوف على أنها صفة لـ "أيمان". وجمع الضمير في قوله: "يأتوا" وما بعده، وإن كان عائدا في المعنى على مثنى وهو الشاهدان، فقيل: هو عائد على صنفي الشاهدين. وقيل: بل عائد على الشهود من الناس كلهم، معناه: ذلك أولى وأجدر أن يحذر الناس الخيانة، فيتحروا في شهادتهم خوف الشناعة عليهم والفضيحة في رد اليمين على المدعي. وقوله: "واتقوا الله" لم يذكر متعلق التقوى: إما للعلم به؛ أي: واتقوا الله في شهادتكم وفي الموصين عليهم بأن لا تختلسوا لهم شيئا؛ لأن القصة كانت بهذا السبب، وإما قصدا لإيقاع التقوى، فيتناول كل ما يتقى [ ص: 484 ] منه. وكذا مفعول "اسمعوا" إن شئت حذفته اقتصارا أو اختصارا؛ أي: اسمعوا أوامره ونواهيه من الأحكام المتقدمة، وما أفصح ما جيء بهاتين الجملتين الآمرتين، فتبارك الله أصدق القائلين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية