الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 27 ) قوله تعالى: ولو ترى جوابها محذوف لفهم [ ص: 583 ] المعنى، التقدير: لرأيت شيئا عظيما وهولا مفظعا. وحذف الجواب كثير في التنزيل وفي النظم، كقوله تعالى: "ولو أن قرآنا"، وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      1890 - وجدك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1891 - فلو أنها نفس تموت جميعة     ولكنها نفس تساقط أنفسا



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1892 - كذب الغواذل لو رأين مناخنا     بحزيز رامة والمطي سوامي



                                                                                                                                                                                                                                      وحذف الجواب أبلغ، قالوا: لأن السامع تذهب نفسه كل مذهب، فلو صرح له بالجواب وطن نفسه عليه، فلم يخش منه [ كثيرا، ولذلك قال كثير:


                                                                                                                                                                                                                                      1893 - فقلت لها يا عز كل مصيبة     إذا وطنت لها النفس ذلت ]



                                                                                                                                                                                                                                      و "ترى" يجوز أن تكون بصرية ومفعولها محذوف؛ أي: ولو ترى حالهم، ويجوز أن تكون القلبية، والمعنى: ولو صرفت فكرك الصحيح لأن تتدبر حالهم لازددت يقينا.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "لو" هذه وجهان، أظهرهما: أنها الامتناعية، فينصرف المضارع بعدها للمضي، فـ "إذ" باقية على أصلها من دلالتها على الزمن الماضي، [ ص: 584 ] وهذا وإن كان لم يقع بعد؛ لأنه سيأتي يوم القيامة، إلا أنه أبرز في صورة الماضي لتحقق الوعد. والثاني: أنها بمعنى "إن" الشرطية. و "إن" هنا تكون بمعنى "إذا"، والذي حمل هذا القائل على ذلك كونه لم يقع بعد، وقد تقدم تأويله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور: "وقفوا" مبنيا للمفعول من وقف ثلاثيا. و "على" يحتمل أن تكون على بابها وهو الظاهر؛ أي: حبسوا عليها، وقيل: يجوز أن تكون بمعنى "في"، وليس بذاك. وقرأ ابن السميفع وزيد بن علي: "وقفوا" مبنيا للفاعل. و "وقف" يتعدى ولا يتعدى، وفرقت العرب بينهما بالمصدر، فمصدر اللازم على فعول، ومصدر المتعدي على فعل، ولا يقال: أوقفت. قال أبو عمرو بن العلاء: "لم أسمع شيئا في كلام العرب: أوقفت فلانا، إلا أني لو رأيت رجلا واقفا فقلت له: "ما أوقفك ههنا ؟" لكان عندي حسنا"، وإنما قال كذلك لأن تعدي الفعل بالهمزة مقيس، نحو: ضحك زيد وأضحكته أنا، ولكن سمع غيره في "وقف" المتعدي أوقفته. قال الراغب: "ومنه - يعني: من لفظ وقفت القوم - استعير: وقفت الدابة: إذا سبلتها"، فجعل الوقف حقيقة في منع المشي، وفي التسبيل مجازا على سبيل الاستعارة، وذلك أن الشيء المسبل كأنه ممنوع من الحركة، والوقف لفظ مشترك بين ما تقدم وبين سوار من عاج، ومنه: "حمار موقف بأرساغه مثل الوقف من البياض".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يا ليتنا" قد تقدم الكلام في "يا" المباشرة للحرف والفعل. وقرأ: "ولا نكذب" و "نكون" برفعهما نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، والكسائي ، [ ص: 585 ] وبنصبهما حمزة عن عاصم، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر وأبو بكر. ونقل الشيخ عن ابن عامر أنه نصب الفعلين، ثم قال بعد كلام طويل: "قال ابن عطية : وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار، عن أصحابه، عن ابن عامر: "ولا نكذب" بالرفع، و "نكون" بالنصب". فأما قراءة الرفع فيهما ففيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن الرفع فيهما على العطف على الفعل قبلهما وهو "نرد"، ويكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء: الرد إلى دار الدنيا، وعدم تكذيبهم بآيات ربهم، وكونهم من المؤمنين. والثاني: أن الواو واو الحال، والمضارع خبر مبتدأ مضمر، والجملة الاسمية في محل نصب على الحال من مرفوع "نرد"، والتقدير: يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيكون تمني الرد مقيدا بهاتين الحالين، فيكون الفعلان أيضا داخلين في التمني.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد استشكل الناس هذين الوجهين: بأن التمني إنشاء، والإنشاء لا يدخله الصدق ولا الكذب، وإنما يدخلان في الإخبار، وهذا قد دخله الكذب؛ لقوله تعالى: "وإنهم لكاذبون". وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه، أحدها - ذكره الزمخشري - قال: "هذا تمن تضمن معنى العدة، فجاز أن يدخله التكذيب، كما يقول الرجل: "ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك، وأكافئك على صنيعك"، فهذا متمن في معنى الواعد، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب، وصح أن يقال له: كاذب، كأنه قال: إن رزقني الله مالا أحسنت إليك. [ ص: 586 ]

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن قوله تعالى: "وإنهم لكاذبون" ليس متعلقا بالمتمنى، بل هو محض إخبار من الله تعالى بأنهم ديدنهم الكذب وهجيراهم ذلك، فلم يدخل الكذب في التمني. وهذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح.

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنا لا نسلم أن التمني لا يدخله الصدق ولا الكذب، بل يدخلانه، وعزي ذلك إلى عيسى بن عمر، واحتج على ذلك بقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1894 - منى إن تكن حقا يكن أحسن المنى     وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا



                                                                                                                                                                                                                                      قال: "وإذا جاز أن توصف المنى بكونها حقا، جاز أن توصف بكونها باطلا وكذبا". وهذا الجواب ساقط جدا، فإن الذي وصف بالحق إنما هو المنى، والمنى جمع منية، والمنية توصف بالصدق والكذب مجازا؛ لأنها كأنها تعد النفس بوقوعها، فيقال لما وقع منها: صادق، ولما لم يقع منها: كاذب، فالصدق والكذب إنما دخلا في المنية لا في التمني.

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث من الأوجه المتقدمة: أن قوله: "ولا نكذب" خبر لمبتدأ محذوف، والجملة استئنافية لا تعلق لها بما قبلها، وإنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجملة المشتملة على أداة التمني وما في حيزها، فليست داخلة في التمني أصلا، وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربهم، وأنهم يكونون من المؤمنين، فتكون هذه الجملة وما عطف عليها في محل نصب بالقول، كأن التقدير: فقالوا: يا ليتنا نرد، وقالوا: نحن لا نكذب ونكون من المؤمنين. واختار سيبويه هذا الوجه، وشبهه بقولهم: "دعني ولا أعود"؛ أي: وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني؛ أي: لا أعود على كل حال، كذلك معنى الآية أخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم، وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال، ردوا أو لم يردوا. [ ص: 587 ]

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الوجه وإن كان الناس قد ذكروه ورجحوه واختاره سيبويه - كما مر -، فإن بعضهم استشكل عليه إشكالا، وهو: أن الكذب لا يقع في الآخرة، فكيف وصفوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم: "ولا نكذب ونكون" ؟ وقد أجيب عنه بوجهين، أحدهما: أن قوله: "وإنهم لكاذبون" استيثاق لذمهم بالكذب، وأن ذلك شأنهم كما تقدم ذلك آنفا. والثاني: أنهم صمموا في تلك الحال على أنهم لو ردوا لما عادوا إلى الكفر لما شاهدوا من الأهوال والعقوبات، فأخبر الله تعالى أن قولهم في تلك الحال: "ولا نكذب" وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغير على تقدير الرد ووقوع العود، فيصير قولهم: "ولا نكذب" كذبا، كما يقول اللص عند ألم العقوبة: "لا أعود"، ويعتقد ذلك ويصمم عليه، فإذا خلص وعاد كان كاذبا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ وقد أجاب مكي أيضا بجوابين، أحدهما ] قريب مما تقدم، والثاني لغيره، فقال: "أي: لكاذبون في الدنيا في تكذيبهم الرسل وإنكارهم البعث للحال التي كانوا عليها، وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوع التكذيب في الآخرة؛ لأنهم ادعوا أنهم لو ردوا لم يكذبوا بآيات الله، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف يكون، وأنهم لو ردوا لم يؤمنوا ولكذبوا بآيات الله، فأكذبهم الله في دعواهم".

                                                                                                                                                                                                                                      وأما نصبهما فبإضمار "أن" بعد الواو التي بمعنى مع، كقولك: "ليت لي مالا وأنفق منه"، فالفعل منصوب بإضمار "أن"، و "أن" مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدر، والواو حرف عطف فيستدعي معطوفا عليه، وليس قبلها في الآية إلا فعل، فكيف يعطف اسم على فعل ؟ فلا جرم أنا نقدر مصدرا [ ص: 588 ] متوهما يعطف هذا المصدر المنسبك من "أن" وما بعدها عليه، والتقدير: يا ليتنا لنا رد، وانتفاء تكذيب بآيات ربنا، وكون من المؤمنين؛ أي: ليتنا لنا رد مع هذين الشيئين، فيكون عدم التكذيب والكون من المؤمنين متمنيين أيضا، فهذه الثلاثة الأشياء، أعني: الرد، وعدم التكذيب والكون من المؤمنين، متمناة بقيد الاجتماع، لا أن كل واحد متمنى وحده؛ لأنه كما قدمت لك: هذه الواو شرط إضمار "أن" بعدها: أن تصلح "مع" في مكانها، فالنصب يعين أحد محتملاتها في قولك: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن" وشبهه، والإشكال المتقدم وهو إدخال التكذيب على التمني وارد هنا، وقد تقدم جواب ذلك، إلا أن بعضه يتعذر ههنا: وهو كون "لا نكذب، ونكون" مستأنفين سيقا لمجرد الإخبار، فبقي: إما لكون التمني دخله معنى الوعد، وإما أن قوله تعالى: "وإنهم لكاذبون" ليس راجعا إلى تمنيهم، وإما لأن التمني يدخله التكذيب، وقد تقدم فساده.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الأنباري: "أكذبهم في معنى التمني؛ لأن تمنيهم راجع إلى معنى: "نحن لا نكذب إذا رددنا"، فغلب عز وجل تأويل الكلام فأكذبهم، ولم يستعمل لفظ التمني". وهذا الذي قاله ابن الأنباري تقدم معناه بأوضح من هذا. قال الشيخ: "وكثيرا ما يوجد في كتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني، كما قال الزمخشري : "وقرئ: "ولا نكذب ونكون" بالنصب بإضمار أن على جواب التمني، ومعناه: إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين". قال: "وليس كما ذكر، فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب؛ لأن الواو لا تقع [ في ] جواب الشرط، فلا ينعقد [ ص: 589 ] مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب، وإنما هي واو "مع" يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها، وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة: وهي المعية ويميزها من الفاء تقدير "مع" موضعها، كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعل منصوب ميزها تقدير شرط قبلها أو حال مكانها. وشبهة من قال: إنها جواب، أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء، فتوهم أنها جواب. وقال سيبويه: "والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، والواو والفاء معناهما مختلفان، ألا ترى:


                                                                                                                                                                                                                                      1895 - لا تنه عن خلق وتأتي مثله      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      لو دخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد: لا تجمع النهي والإتيان، وتقول: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن"، لو أدخلت الفاء فسد المعنى". قال الشيخ: "ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط، إلا في النفي، فإن ذلك لا يجوز". قلت: قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج شيخ الجماعة. قال أبو إسحاق: "نصب على الجواب بالواو في التمني، كما تقول: "ليتك تصير إلينا ونكرمك"، المعنى: ليت مصيرك يقع وإكرامنا، ويكون المعنى: ليت ردنا وقع وأن لا نكذب".

                                                                                                                                                                                                                                      وأما كون الواو ليست بمعنى الفاء فصحيح، على ذلك جمهور النحاة. إلا أني رأيت أبا بكر ابن الأنباري خرج النصب على وجهين، أحدهما: أن [ ص: 590 ] الواو بمعنى الفاء. قال أبو بكر: "في نصب "نكذب" وجهان، أحدهما: أن الواو مبدلة من الفاء، والتقدير: يا ليتنا نرد فلا نكذب ونكون، فتكون الواو هنا بمنزلة الفاء في قوله: لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ، يؤكد هذا قراءة ابن مسعود وابن أبي إسحاق: "يا ليتنا نرد فلا نكذب" بالفاء منصوبا. والوجه الآخر: النصب على الصرف ومعناه الحال؛ أي: يا ليتنا نرد غير مكذبين".

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة ابن عامر - برفع الأول ونصب الثاني - فظاهرة بما تقدم؛ لأن الأول يرتفع على حد ما تقدم من التأويلات، وكذلك نصب الثاني يتخرج على ما تقدم، ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التمني أو استأنفه، إلا أن المنصوب يحتمل أن يكون من تمام قوله: "نرد"؛ أي: تمنوا الرد مع كونهم من المؤمنين، وهذا ظاهر إذا جعلنا "ولا نكذب" معطوفا على "نرد" أو حالا منه. وأما إذا جعلنا "ولا نكذب" مستأنفا، فيجوز ذلك أيضا، ولكن على سبيل الاعتراض، ويحتمل أن يكون من تمام "ولا نكذب"؛ أي: لا يكون منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين، ويكون قوله: "ولا نكذب" حينئذ على حاله، أعني: من احتماله العطف على "نرد"، أو الحالية، أو الاستئناف، ولا يخفى حينئذ دخول كونهم مع المؤمنين في التمني وخروجه منه بما قررته لك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ شاذا عكس قراءة ابن عامر؛ أي: بنصب "نكذب" ورفع "نكون"، وتخريجها على ما تقدم، إلا أنها يضعف فيها جعل "ونكون من المؤمنين" حالا؛ لكونه مضارعا مثبتا، إلا بتأويل بعيد كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1896 - ... ... ... ...     نجوت وأرهنهم مالكا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: وأنا أرهنهم، وقولهم: "قمت وأصك عينه"، ويدل على حذف هذا المبتدإ قراءة أبي: "ونحن نكون من المؤمنين". [ ص: 591 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية