الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 59 ) قوله تعالى: تنقمون قراءة الجمهور بكسر القاف، وقراءة النخعي، وابن أبي عبلة، وأبي حيوة بفتحها، وهاتان القراءتان مفرعتان على الماضي، وفيه لغتان: الفصحى: - وهي التي حكاها ثعلب في فصيحه - نقم بفتح القاف ينقم بكسرها، والأخرى: نقم بكسر القاف ينقم بفتحها، وحكاها الكسائي، ولم يقرأ في قوله تعالى: "وما نقموا منهم" إلا بالفتح. وقوله: "إلا أن آمنا" مفعول لـ "تنقمون"، بمعنى: تكرهون وتعيبون، وهو استثناء مفرغ. و "منا" متعلق به؛ أي: ما تكرهون من جهتنا إلا الإيمان، وأصل "نقم" أن يتعدى بـ "على"، تقول: نقمت عليه كذا، وإنما عدي هنا بـ "من" [ ص: 318 ] لمعنى سأذكره. وقال أبو البقاء: و "منا" مفعول تنقمون الثاني، وما بعد "إلا" هو المفعول الأول، ولا يجوز أن يكون "منا" حالا من "أن"، والفعل لأمرين، أحدهما: تقدم الحال على "إلا". والثاني: تقدم الصلة على الموصول، والتقدير: هل تكرهون منا إلا إيماننا. انتهى. وفي قوله: "مفعول أول وثان" نظر؛ لأن الأفعال التي تتعدى لاثنين إلى أحدهما بنفسها، وإلى الآخر بحرف الجر محصورة، كأمر، واختار، واستغفر، وصدق، وسمى، ودعا بمعناه، وزوج، ونبأ، وأنبأ، وخبر، وأخبر، وحدث غير مضمنة معنى أعلم، وكلها يجوز فيها إسقاط الخافض والنصب، وليس هذا منها. وقوله: ولا يجوز أن يكون حالا، يعني: أنه لو تأخر بعد "أن آمنا" لفظة "منا"، لجاز أن تكون حالا من المصدر المؤول من "أن" وصلتها، ويصير التقدير: هل تكرهون إلا الإيمان في حال كونه منا، لكنه امتنع مع تقدمه على "أن آمنا" للوجهين المذكورين، أحدهما: تقدمه على "إلا"، ويعني بذلك: أن الحال لا تتقدم على "إلا"، ولا أدري ما يمنع ذلك ؟ لأنه إذا جعل "منا" حالا من "أن" وما في حيزها، كان عامل الحال مقدرا، ويكون صاحب الحال محصورا، وإذا كان صاحب الحال محصورا، وجب تقديم الحال عليه، فيقال: ما جاء راكبا زيد، وما ضربت مكتوفا إلا عمرا، فـ "راكبا، ومكتوفا" حالان مقدمان وجوبا لحصر صاحبيهما، فهذا مثله. وقوله: "والثاني: تقدم الصلة على الموصول"، لم تتقدم صلة على موصول، بيانه: أن الموصول هو "أن"، والصلة "آمنا"، و "منا" ليس متعلقا بالصلة، بل هو معمول لمقدر، ذلك المقدر في الحقيقة منصوب بـ "تنقمون"، فما أدري ما توهمه حتى قال ما قال ؟ على أنه لا يجوز أن يكون حالا، لكن لا لما ذكر، بل لأنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير: هل تنقمون إلا إيماننا منا، فمن نفس قوله: "إيماننا" فهم أنه منا، فلا فائدة فيه حينئذ. فإن قيل: تكون حالا [ ص: 319 ] مؤكدة. قيل: خلاف الأصل، وليس هذا من مظانها، وأيضا فإن هذا شبيه بتهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، فإن "تنقمون" يطلب هذا الجار طلبا ظاهرا. وقرأ الجمهور: "وما أنزل إلينا وما أنزل" بالبناء للمفعول فيهما، وقرأ أبو نهيك: "أنزل، وأنزل" بالبناء للفاعل، وكلتاهما واضحة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: "وأن أكثركم فاسقون"، قرأ الجمهور: "أن" مفتوحة الهمزة، وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها. فأما قراءة الجمهور فتحتمل "أن" فيها أن تكون في محل رفع، أو نصب، أو جر، فالرفع من وجه واحد، وهو أن تكون مبتدأ، والخبر محذوف. قال الزمخشري: والخبر محذوف؛ أي: فسقكم ثابت معلوم عندكم؛ لأنكم علمتم أنا على الحق وأنتم على الباطل، إلا أن حب الرئاسة وجمع الأموال لا يدعكم فتنصفوا، فقدر الخبر مؤخرا. قال الشيخ: ولا ينبغي أن يقدر الخبر إلا مقدما؛ لأنه لا يبتدأ بـ "أن" على الأصح إلا بعد "أما". انتهى. ويمكن أن يقال: يغتفر في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في اللفظية، لاسيما أن هذا جار مجرى تفسير المعنى، والمراد إظهار ذلك الخبر كيف ينطق به؛ إذ يقال إنه يرى جواز الابتداء بـ "أن" مطلقا، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما النصب فمن ستة أوجه، أحدها: أن يعطف على "أن آمنا"، واستشكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقدير: هل تكرهون إلا إيماننا وفسق أكثركم، وهم لا يعترفون بأن أكثرهم فاسقون حتى يكرهونه. وأجيب عن ذلك، فأجاب الزمخشري وغيره بأن المعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين [ ص: 320 ] أيماننا، وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم، حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل الواحدي عن بعضهم أن ذلك من باب المقابلة والازدواج، يعني: أنه لما نقم اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل، وهو مما لا ينقم، ذكر في مقابلته فسقهم، وهو مما ينقم، ومثل ذلك حسن في الازدواج، يقول القائل: هل تنقم مني إلا أني عفوت عنك وأنك فاجر؛ فيحسن ذلك لإتمام المعنى بالمقابلة. وقال أبو البقاء: والمعنى على هذا: إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم؛ أي: كرهتم مخالفتنا إياكم، وهذا كقولك للرجل: ما كرهت مني إلا أني محبب للناس وأنك مبغض، وإن كان لا يعترف بأنه مبغض. وقال ابن عطية: وأن أكثركم فاسقون، هو عند أكثر المتأولين معطوف على قوله: "أن آمنا"، فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه، وهذا لا يتجه معناه، ثم قال بعد كلام: وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة: هل تنقمون منا إلا مجموع هذه الحال من أنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون "وأن أكثركم فاسقون" مما قرره المخاطب لهم، وهذا كما تقول لمن يخاصم: هل تنقم علي إلا أن صدقت أنا وكذبت أنت، وهو لا يقر بأنه كاذب ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تنقم إلا مجموع هذه الحال، وهذا هو مجموع ما أجاب به الزمخشري والواحدي.

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني من أوجه النصب: أن يكون معطوفا على "أن آمنا" أيضا، ولكن في الكلام مضاف محذوف لصحة المعنى، تقديره: واعتقاد أن أكثركم فاسقون، وهو معنى واضح، فإن الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم فاسقون. الثالث: أنه منصوب بفعل مقدر، تقديره: هل تنقمون منا إلا إيمانا، ولا تنقمون [ ص: 321 ] فسق أكثركم. الرابع: أنه منصوب على المعية، وتكون الواو بمعنى "مع"، تقديره: وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون. ذكر جميع هذه الأوجه أبو القاسم الزمخشري. والخامس: أنه منصوب عطفا على "أن آمنا"، و "أن آمنا" مفعول من أجله، فهو منصوب، فعطف هذا عليه، والأصل: هل تنقمون إلا لأجل إيماننا، ولأجل أن أكثرهم فاسقون، فلما حذف حرف الجر من "أن آمنا" بقي منصوبا على أحد الوجهين المشهورين، إلا أنه يقال هنا: النصب ممتنع من حيث إنه فقد شرط من المفعول له، وهو اتحاد الفاعل، والفاعل هنا مختلف، فإن فاعل الانتقام غير فاعل الإيمان، فينبغي أن يقدر هنا محل "أن آمنا" جرا ليس إلا، بعد حذف حرف الجر، ولا يجري فيه الخلاف المشهور بين الخليل وسيبويه في محل "أن"، إذا حذف منها حرف الجر، لعدم اتحاد الفاعل. وأجيب عن ذلك بأنا وإن اشترطنا اتحاد الفاعل، فإنا نجوز اعتقاد النصب في "أن، وأن" إذا وقعا مفعولا من أجله بعد حذف حرف الجر، لا لكونهما مفعولا من أجله، بل من حيث اختصاصهما من حيث هما بجواز حذف حرف الجر لطولهما بالصلة، وفي هذه المسألة بخصوصها خلاف مذكور في بابه، ويدل على ذلك ما نقله الواحدي عن صاحب " النظم "، فإن صاحب " النظم " ذكر عن الزجاج معنى، وهو: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقكم؛ أي: إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على حق؛ لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم، وهذا معنى قول الحسن، فعلى هذا يجب أن يكون موضع "أن" في قوله: "وأن أكثركم" نصبا بإضمار اللام على تأويل: "ولأن أكثركم" والواو زائدة، فقد صرح صاحب " النظم " بما ذكرته. الوجه السادس: أنه في محل نصب على أنه مفعول من أجله لتنقمون، والواو زائدة كما تقدم [ ص: 322 ] تقريره. وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير ليفهم معناه. قال الشيخ بعد ذكر ما نقلته من الأوجه المتقدمة عن الزمخشري: ويظهر وجه ثامن ولعله يكون الأرجح، وذلك أن "نقم" أصله أن يتعدى بـ "على"، تقول: نقمت عليه، ثم تبني منه افتعل، إذ ذاك بـ "من"، ويضمن معنى الإصابة بالمكروه، قال تعالى: ومن عاد فينتقم الله منه ، ومناسبة التضمين فيها أن من عاب على شخص فعله، فهو كاره له، ومصيبه عليه بالمكروه، فجاءت هنا فعل بمعنى افتعل، كقدر واقتدر، ولذلك عديت بـ "من" دون "على" التي أصلها أن تتعدى بها، فصار المعنى: وما تنالون منا وما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا؛ أي: إلا لأن آمنا، فيكون "أن آمنا" مفعولا من أجله، ويكون "وأن أكثركم فاسقون" معطوفا على هذه العلة، وهذا - والله أعلم - سبب تعديته بـ "من" دون "على". انتهى ما قاله، ولم يصرح بكونه حينئذ في محل نصب أو جر، إلا أن ظاهر حاله أن يعتقد كونه في محل جر، فإنه إنما ذكر أوجه الجر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الجر فمن ثلاثة أوجه، أحدها: أنه عطف على المؤمن به، قال الزمخشري: أي: وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل، وبأن أكثركم فاسقون، وهذا معنى واضح. قال ابن عطية: وهذا مستقيم المعنى؛ لأن إيمان المؤمنين بأن أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فسقة هو مما ينقمونه. الثاني: أنه مجرور عطفا على علة محذوفة [ ص: 323 ] تقديرها: ما تنقمون منا إلا الإيمان؛ لقلة إنصافكم، وفسقكم، وإتباعكم شهواتكم، ويدل عليه تفسير الحسن البصري "بفسقكم نقمتم علينا"، ويروى: لفسقهم نقموا علينا الإيمان. الثالث: أنه في محل جر عطفا على محل "أن آمنا"، إذا جعلناه مفعولا من أجله، واعتقدنا أن "أن" في محل جر بعد حذف الحرف، وقد تقدم ما في ذلك في الوجه الخامس، فقد تحصل في قوله تعالى: "وأن أكثركم فاسقون" أحد عشر وجها، وجهان في حالة الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر؛ هل يقدر مقدما وجوبا أو جوازا، وقد تقدم ما فيه، وستة أوجه في النصب، وثلاثة في الجر. وأما قراءة ابن ميسرة فوجهها أنها على الاستئناف، أخبر أن أكثرهم فاسقون، ويجوز أن تكون منصوبة المحل لعطفها على معمول القول، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: هل تنقمون إلى آخره، وأن يقول لهم: إن أكثركم فاسقون، وهي قراءة جلية واضحة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية