الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 14 ) قوله تعالى: ومن الذين قالوا فيه خمسة أوجه، [ ص: 226 ] أحدهما: - وهو الظاهر - أن "من" متعلقة بقوله: "أخذنا"، والتقدير الصحيح فيه أن يقال: تقديره: وأخذنا من الذين قالوا: إنا نصارى ميثاقهم، فتقع "الذين" بعد "أخذنا"، وتؤخر عنه "ميثاقهم"، ولا يجوز أن تقدر "وأخذنا ميثاقهم من الذين" فتقدم "ميثاقهم" على "الذين قالوا"، وإن كان ذلك جائزا من حيث كونهما مفعولين، كل منهما جائز التقديم والتأخير؛ لأنه يلزم عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة، وهو لا يجوز إلا في مواضع محصورة، نص على ذلك جماعة، منهم مكي وأبو البقاء. الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه خبر مبتدأ محذوف قامت صفته مقامه، والتقدير: ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا ميثاقهم، فالضمير في "ميثاقهم" يعود على ذلك المحذوف. والثالث: أنه خبر مقدم أيضا، ولكن قدروا المبتدأ موصولا حذف وبقيت صلته، والتقدير: ومن الذين قالوا: إنا نصارى من أخذنا ميثاقهم، فالضمير في "ميثاقهم" عائد على "من"، والكوفيون يجيزون حذف الموصول، وقد تقدم لنا معهم البحث في ذلك. ونقل مكي مذهب الكوفيين هذا، وقدره عندهم: ومن الذين قالوا: إن نصارى من أخذنا، وهذا التقدير لا يؤخذ منه أن المحذوف موصول فقط، بل يجوز أن تكون "من" المقدرة نكرة موصوفة حذفت وبقيت صفتها، فيكون كالمذهب الأول. الرابع: أن تتعلق "من" بـ "أخذنا" كالوجه الأول، إلا أنه لا يلزم فيه ذلك التقدير، وهو أن توقع "من الذين" بعد "أخذنا"، وقبل "ميثاقهم"، بل يجوز أن يكون التقدير على العكس، بمعنى أن الضمير في "ميثاقهم" يعود على بني إسرائيل، ويكون المصدر من قوله: "ميثاقهم" مصدرا تشبيهيا، والتقدير: وأخذنا من النصارى ميثاقا مثل ميثاق بني إسرائيل، كقولك: أخذت من زيد ميثاق عمرو؛ أي: ميثاقا [ ص: 227 ] مثل ميثاق عمرو، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري، فإنه قال: أخذنا من النصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى؛ أي: مثل ميثاقهم بالإيمان بالله والرسل. الخامس: أن "من الذين" معطوف على "منهم" من قوله تعالى: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم"؛ أي: من اليهود، والمعنى: ولا تزال تطلع على خائنة من اليهود ومن الذين قالوا إنا نصارى، ويكون قوله: "أخذنا ميثاقهم" على هذا مستأنفا. وهذا ينبغي ألا يجوز لوجهين، أحدهما: الفصل غير المغتفر. والثاني: أنه تهيئة للعامل في شيء وقطعه عنه، وهو لا يجوز.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بينهم" فيه وجهان، أحدهما: أنه ظرف لـ " أغرينا ". والثاني: أنه حال من "العداوة " فيتعلق بمحذوف، ولا يجوز أن يكون ظرفا للعداوة؛ لأن المصدر لا يتقدم معموله عليه. و "إلى يوم القيامة" أجاز فيه أبو البقاء أن يتعلق بأغرينا، أو بالعداوة، أو بالبغضاء؛ أي: أغرينا إلى يوم القيامة بينهم العداوة والبغضاء، أو أنهم يتعادون إلى يوم القيامة، أو يتباغضون إلى يوم القيامة. وعلى ما أجازه أبو البقاء تكون المسألة من باب الإعمال، ويكون قد وجد التنازع بين ثلاثة عوامل، ويكون من إعمال الثالث للحذف من الأول والثاني، وتقدم تحرير ذلك. و "أغرينا" من أغراه بكذا؛ أي: ألزمه إياه، وأصله من الغراء الذي يلصق به، ولامه واو، فالأصل: أغرونا، وإنما قلبت الواو ياء لوقوعها رابعة كـ "أغوينا"، ومنه قولهم: سهم مغرو؛ أي: معمول بالغراء، يقال: غري بكذا يغرى غراء وغراء، فإذا أريد تعديته عدي بالهمزة، فقيل: أغريته بكذا. والضمير في "بينهم" يحتمل أن يعود على "الذين قالوا إنا نصارى"، وأن يعود على اليهود المتقدمين الذكر، وبكل قال جماعة، وهذا الكلام معطوف على الكلام قبله من قوله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل [ ص: 228 ] ؛ أي: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، وأخذنا من الذين قالوا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية