الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 46 ) قوله تعالى: وقفينا على آثارهم بعيسى : قد تقدم معنى "قفينا"، وأنه من قفا يقفو؛ أي: "تبع قفاه" في البقرة. وقوله: "على آثارهم بعيسى" كلا الجارين متعلق به على تضمينه معنى: جئنا به على آثارهم قافيا لهم، وتقدم أيضا أن التضعيف فيه ليس للتعدية لعلة ذكرت هناك. وإيضاحها أن "قفا" متعد لواحد قبل التضعيف، قال تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم ، فـ "ما" موصولة بمعنى الذي هي مفعول، وتقول العرب: قفا فلان أثر فلان؛ أي: تبعه، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين، فكان التركيب يكون: ثم قفينا هم عيسى بن مريم، فـ "هم" مفعول ثان و "عيسى" أول، ولكنه ضمن كما تقدم؛ فلذلك تعدى بالباء و "على". قال الزمخشري: "قفيته" مثل: عقبته: إذا أتبعته، ثم يقال: "قفيته بفلان" مثل: عقبته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء. فإن قلت: أين المفعول الأول ؟ قلت: هو محذوف، [ ص: 282 ] والظرف الذي هو "على آثارهم" كالساد مسده؛ لأنه إذا قفى به على أثره، فقد قفى به إياه؛ فكلامه هنا ينحو إلى أن "قفيته" مضعفا كقفوته ثلاثيا ثم عداه بالباء، وهذا وإن كان صحيحا من حيث إن فعل قد جاء بمعنى فعل المجرد، كقدر وقدر، إلا أن بعضهم زعم أن تعدية المتعدي لواحد لا يتعدى إلى ثان بالباء، لا تقول في "طعم زيد اللحم": أطعمت زيدا باللحم، ولكن الصواب أنه قليل غير ممتنع، جاءت منه ألفاظ، قالوا: صك الحجر الحجر، ثم يقولون: صككت الحجر بالحجر، ودفع زيد عمرا، ثم دفعت زيدا بعمرو؛ أي: جعلته دافعا له، فكلامه إما ممتنع أو محمول على القليل، وقد أشرت إلى منع ادعاء حذف المفعول من نحو: "قفينا" في البقرة، فليطلب ثمة. وناقشه الشيخ في قوله: "فقد قفى به إياه" من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل، فيقول: "قفيته به". قال: ولو قلت: زيد ضربت بسوط إياه، لم يجز إلا في ضرورة شعر، بل ضربته بسوط، وهذا ليس بشيء؛ لأن ذلك من باب قوله: يخرجون الرسول وإياكم ، ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم ، وقد تقدم تحقيقه.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "آثارهم" إما للنبيين؛ لقوله: "يحكم بها النبيون"، وإما لمن كتبت عليهم تلك الأحكام، والأول أظهر؛ لقوله في موضع آخر: برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم . و "مصدقا" حال من "عيسى"، قال ابن [ ص: 283 ] عطية: وهي حال مؤكدة، وكذلك قال في "مصدقا" الثانية، وهو ظاهر، فإن من لازم الرسول والإنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدقين. و "لما" متعلق به، وقوله: "من التوراة" حال؛ إما من الموصول وهو "ما" المجرورة باللام، وإما من الضمير المستكن في الظرف لوقوعه صلة، ويجوز أن تكون لبيان جنس الموصول.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وآتيناه" يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون عطفا على قوله: "وقفينا"، فلا يكون لها محل، كما أن المعطوف عليه لا محل له، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال عطفا على "مصدقا" الأول، إذا جعل "مصدقا" الثاني حالا من "عيسى" أيضا كما سيأتي، ويجوز أن تكون الجملة حالا، وإن لم يكن "مصدقا" الثاني حالا من "عيسى". وقوله: "فيه هدى" يجوز أن يكون "فيه" وحده حالا من الإنجيل، ، و "هدى" فاعل به؛ لأنه لما اعتمد على ذي الحال رفع الفاعل، ويجوز أن يكون "فيه" خبرا مقدما، و "هدى" مبتدأ مؤخر والجملة حال، و "مصدقا" حال عطفا على محل "فيه هدى" بالاعتبارين، أعني: اعتبار أن يكون "فيه" وحده هو الحال، فعطفت هذه الحال عليه، وأن يكون "فيه هدى" جملة اسمية محلها النصب، و "مصدقا" عطف على محلها، وإلى هذا ذهب ابن عطية، إلا أن هذا مرجوح من وجهين، أحدهما: أن أصل الحال أن تكون مفردة، والجار أقرب إلى المفرد من الجمل. الثاني: أن الجملة الاسمية الواقعة حالا الأكثر أن تأتي فيها بالواو، وإن كان فيها ضمير، حتى زعم الفراء - وتبعه الزمخشري - أن ذلك لا يجوز إلا شاذا، وكون "مصدقا" هذا حالا من "الإنجيل" هو الظاهر، وأجاز [ ص: 284 ] مكي بن أبي طالب - وتبعه أبو البقاء - أن يكون "مصدقا" الثاني حالا أيضا من "عيسى" كرر توكيدا. قال ابن عطية: وهذا فيه قلق من جهة اتساق المعاني. قلت: إذا جعلنا "وآتيناه" حالا منه، وعطفنا عليها هذه الحال الأخرى، فلا أدري وجه القلق من الحيثية المذكورة ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "وهدى" الجمهور على النصب، وهو على الحال؛ إما من “الإنجيل"، عطفت هذه الحال على ما قبلها، وإما من "عيسى"؛ أي: ذا هدى وموعظة أو هاديا، أو جعل نفس الهدى مبالغة. وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعول من أجله، وجعل العامل فيه قوله تعالى: "آتيناه". قال: وأن ينتصبا مفعولا لهما لقوله: "وليحكم"، كأنه قيل: وللهدى وللموعظة آتيناه الإنجيل وللحكم. وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون العامل فيه "قفينا"؛ أي: قفينا للهدى والموعظة، وينبغي إذا جعلا مفعولا من أجله أن يقدر إسنادها إلى الله تعالى لا إلى الإنجيل ليصح النصب، فإن شرطه اتحاد المفعول له مع عامله فاعلا وزمانا، ولذلك لما اختلف الفاعل في قوله: "وليحكم أهل الإنجيل" عدي إليه باللام، ولأنه خالفه أيضا في الزمان، فإن زمن الحكم مستقبل وزمن الأنبياء ماض، بخلاف الهداية والموعظة، فإنهما مقارنان في الزمان للإيتاء. و "للمتقين" يجوز أن يكون صفة لـ "موعظة"، ويجوز أن تكون اللام زائدة مقوية، و "المتقين" مفعول بـ "موعظة"، ولم تمنع تاء التأنيث من عمله؛ لأنه مبني عليها، كقوله: [ ص: 285 ]


                                                                                                                                                                                                                                      1732 -... ... ... ... ورهبة عقابك ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم الكلام على "الإنجيل" واشتقاقه، وقراءة الحسن فيه، بما أغنى عن إعادته. وقرأ الضحاك بن مزاحم: "وهدى وموعظة" بالرفع، ووجهها أنها خبر ابتداء مضمر؛ أي: وهو هدى وموعظة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية