الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 32 ) قوله تعالى: وما الحياة الدنيا إلا لعب يجوز أن يكون من المبالغة جعل الحياة نفس اللعب واللهو، كقولها:


                                                                                                                                                                                                                                      1901 - ... ... ... ... فإنما هي إقبال وإدبار



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا أحسن، ويجوز أن يكون في الكلام حذف؛ أي: وما أعمال الحياة، وقال الحسن البصري: "وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب"، فقدر شيئين محذوفين.

                                                                                                                                                                                                                                      واللهو: صرف النفس عن الجد إلى الهزل، ومنه: لها يلهو. وأما لهي عن كذا، فمعناه: صرف نفسه، والمادة واحدة انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، نحو: شقي ورضي. وقال المهدوي: "الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم: لهيان، ولام الأول واو". قال الشيخ: "وليس بشيء؛ لأن الواو في التثنية انقلبت ياء، فليس أصلها الياء، ألا ترى إلى تثنية شج: شجيان، وهو من الشجو" انتهى. يعني: أنهم يقولون في اسم فاعله: له كشج، والتثنية مبنية على المفرد، وقد انقلبت في المفرد فلتنقلب في المثنى، [ ولنا فيه بحث أودعناه في " التفسير الكبير "، ولله الحمد ]. وبهذا يظهر فساد رد المهدوي على الرماني، فإن الرماني قال: "اللعب: عمل يشغل النفس عما تنتفع به، واللهو: صرف النفس من الجد إلى الهزل، يقال: لهيت عنه؛ أي: صرفت نفسي عنه". قال المهدوي: "وفيه ضعف وبعد؛ لأن الذي فيه معنى الصرف لامه ياء، بدليل قولهم في التثنية لهيان" انتهى. وقد تقدم فساد هذا الرد، وقال الراغب: "اللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، يقال: لهوت بكذا [ ص: 600 ] أو لهيت عن كذا: اشتغلت عنه بلهو"، وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حمل المهدوي على التفرقة بين المادتين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وللدار الآخرة" قرأ الجمهور بلامين، الأولى لام الابتداء، والثانية للتعريف، وقرؤوا: "الآخرة" رفعا على أنها صفة للدار، و "خير" خبرها. وقرأ ابن عامر: "ولدار" بلام واحدة هي لام الابتداء، و "الآخرة" جر بالإضافة. وفي هذه القراءة تأويلان، أحدهما قول البصريين: وهو أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، والتقدير: ولدار الساعة الآخرة، أو لدار الحياة الآخرة، يدل عليه "وما الحياة الدنيا"، ومثله قولهم: "حبة الحمقاء، ومسجد الجامع، وصلاة الأولى، ومكان الغربي"، التقدير: حبة البقلة الحمقاء، ومسجد المكان الجامع، وصلاة الساعة الأولى، ومكان الجانب الغربي. وحسن ذلك أيضا في الآية كون هذه الصفة جرت مجرى الجوامد في إيلائها العوامل كثيرا، وكذلك كل ما جاء مما توهم فيه إضافة الموصوف إلى صفته، وإنما احتاجوا إلى ذلك؛ لئلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه، وهو ممتنع؛ لأن الإضافة: إما للتعريف أو للتخصيص، والشيء لا يعرف نفسه ولا يخصصها.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: - وهو قول الكوفيين - أنه إذا اختلف لفظ الموصوف وصفته جازت إضافته إليها، وأوردوا ما قدمته من الأمثلة. قال الفراء : "هي إضافة الشيء إلى نفسه، كقولك: بارحة الأولى، ويوم الخميس، وحق اليقين، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين". وقراءة ابن عامر موافقة لمصحفه؛ فإنها رسمت في مصاحف الشاميين بلام واحدة، واختارها بعضهم لموافقتها لما أجمع عليه [ ص: 601 ] في يوسف: "ولدار الآخرة خير"، وفي مصاحف الناس بلامين.

                                                                                                                                                                                                                                      و "خير" يجوز أن يكون للتفضيل، وحذف المفضل عليه للعلم به؛ أي: خير من الحياة الدنيا، ويجوز أن يكون لمجرد الوصف بالخيرية، كقوله تعالى: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا . و "للذين يتقون" متعلق بمحذوف؛ لأنه صفة لـ "خير"، والذي ينبغي - أو يتعين - أن تكون اللام للبيان؛ أي: أعني: للذين، وكذا كل ما جاء من نحوه، نحو: "خير لك من الأولى".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أفلا تعقلون" قد تقدم الكلام في مثل هذه الهمزة الداخلة على الفاء وأختها الواو وثم. وقرأ ابن عامر، ونافع، وحفص عن عاصم: "تعقلون" خطابا لمن كان بحضرته عليه السلام وفي زمانه. والباقون بياء الغيبة ردا على ما تقدم من الأسماء الغائبة، وحذف مفعول "تعقلون" للعلم به؛ أي: فلا تعقلون أن الأمر كما ذكر، فتزهدوا في الدنيا، أو أنها خير من الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية