الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 72 ) قوله تعالى: وأن أقيموا فيه أقوال، أحدها: أنها في محل نصب بالقول نسقا على قوله: إن هدى الله هو الهدى؛ أي: قل هذين الشيئين. والثاني: أنه نسق على "لنسلم"، والتقدير: وأمرنا بكذا للإسلام ولنقيم الصلاة، و "أن" توصل بالأمر كقولهم: "كتبت إليه بأن قم"، حكاه سيبويه، وهذا رأي الزجاج. والثالث: أنه نسق على "ائتنا"، قال مكي : "لأن معناه: أن ائتنا" وهو غير ظاهر. والرابع: أنه معطوف على مفعول الأمر المقدر، والتقدير: وأمرنا بالإيمان وبإقامة الصلاة، قاله ابن عطية .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "وهذا لا بأس به؛ إذ لا بد من تقدير المفعول الثاني لـ "أمرنا"، ويجوز حذف المعطوف عليه لفهم المعنى، تقول: أضربت زيدا ؟ فيجيب: نعم وعمرا، التقدير: ضربته وعمرا. وقد أجاز الفراء : "جاءني الذي وزيد قائمان"، التقدير: الذي هو وزيد قائمان، فحذف "هو" لدلالة المعنى عليه. وهذا الذي قال: إنه لا بأس به، ليس من أصول البصريين. وأما "نعم وعمرا" فلا دلالة فيه؛ لأن "نعم" قامت مقام الجملة المحذوفة. وقال مكي قريبا من هذا القول، إلا أنه لم يصرح بحذف المعطوف عليه، فإنه قال: "وأن في موضع نصب بحذف الجار، تقديره: وبأن أقيموا"، فقوله: وبأن أقيموا، هو معنى قول ابن عطية، إلا أن ذاك أوضحه بحذف المعطوف عليه. [ ص: 688 ] وقال الزمخشري : "فإن قلت: علام عطف قوله: "وأن أقيموا" ؟ قلت: على موضع "لنسلم"، كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا". قال الشيخ: "وظاهر هذا التقدير أن "لنسلم" في موضع المفعول الثاني لـ "أمرنا"، وعطف عليه "وأن أقيموا"، فتكون اللام على هذا زائدة، وكان قد قدم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه؛ لأن ما يكون علة يستحيل أن يكون مفعولا، ويدل على أنه أراد بقوله: "أن نسلم في موضع المفعول الثاني" قوله بعد ذلك: "ويجوز أن يكون التقدير: وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا؛ أي: للإسلام ولإقامة الصلاة، وهذا قول الزجاج، فلو لم يكن هذا القول مغايرا لقوله الأول، لاتحد قولاه وذلك خلف".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: "أن أقيموا عطف على قوله: "لنسلم"، تقديره: وأمرنا لأن نسلم وأن أقيموا". قال ابن عطية : "واللفظ يمانعه؛ لأن "نسلم" معرب و "أقيموا" مبني، وعطف المبني على المعرب لا يجوز؛ لأن العطف يقتضي التشريك في العامل".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "وما ذكر من أنه لا يعطف المبني على المعرب ليس كما ذكر، بل يجوز ذلك نحو: "قام زيد وهذا"، وقال تعالى: يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ، غاية ما في الباب أن العمل يؤثر في المعرب ولا يؤثر في المبني، وتقول: "إن قام زيد ويقصدني أكرمه"، فـ "إن" لم تؤثر في "قام" لأنه مبني، وأثرت في "يقصدني" لأنه معرب". ثم قال ابن عطية : "اللهم إلا أن [ ص: 689 ] تجعل العطف في "إن" وحدها، وذلك قلق، وإنما يتخرج على أن يقدر قوله: "وأن أقيموا" بمعنى "ولنقم"، ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك جزالة اللفظ، فجاز العطف على أن يلغى حكم اللفظ ويعول على المعنى، ويشبه هذا من جهة ما حكاه يونس عن العرب: "ادخلوا الأول فالأول"، وإلا فلا يجوز إلا: الأول فالأول بالنصب"

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "وهذا الذي استدركه بقوله: "اللهم إلا" إلى آخره، هو الذي أراده الزجاج بعينه، وهو أن "أن أقيموا" معطوف على "أن نسلم"، وأن كليهما علة للمأمور به المحذوف؛ وإنما قلق عند ابن عطية؛ لأنه أراد بقاء "أن أقيموا" على معناها من موضوع الأمر، وليس كذلك؛ لأن "أن" إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر، وإذا انسبك منهما مصدر زال معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن توصل أن المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي والأمر. قال سيبويه: "وتقول: كتبت إليه بأن قم؛ أي: بالقيام"، فإذا كان الحكم كذا، كان قوله: "لنسلم" و "أن أقيموا" في تقدير: للإسلام ولإقامة الصلاة، وأما تشبيه ابن عطية له بقوله: "ادخلوا الأول فالأول" بالرفع، فليس بشبيه؛ لأن "ادخلوا" لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده، بخلاف "أن" فإنها توصل بالأمر، فإذن لا شبه بينهما" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      أما قول الشيخ: "وإنما قلق عند ابن عطية؛ لأنه أراد بقاء "أن أقيموا" على معناها من موضوع الأمر"، فليس القلق عنده لذلك فقط كما حصره الشيخ، بل لأمر آخر من جهة اللفظ، وهو أن السياق التركيبي يقتضي على ما قاله الزجاج [ ص: 690 ] أن يكون "لنسلم" وأن نقيم، فتأتي في الفعل الثاني بضمير المتكلم، فلما لم يقل ذلك قلق عنده، ويدل على ما ذكرته قول ابن عطية: "بمعنى ولنقم، ثم خرجت بلفظ الأمر" إلى آخره.

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: أنه محمول على المعنى؛ إذ المعنى: قيل لنا: أسلموا وأن أقيموا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية