الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 90 ) قوله تعالى: إلا الذين يصلون : فيه قولان، أظهرهما: أنه استثناء متصل، والمستثنى منه قوله: فخذوهم واقتلوهم ، والمستثنون على هذا قوم كفار، ومعنى الوصلة هنا: الوصلة بالمعاهدة والمهادنة، وقال أبو عبيد: هو اتصال النسب. وغلطه النحاس بأن النسب كان ثابتا بين النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وبين المشركين، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من قتالهم. والثاني: أنه منقطع - وهو قول أبي مسلم الأصفهاني، واختيار [ ص: 64 ] الراغب - قال أبو مسلم: لما أوجب الله الهجرة على كل من أسلم، استثنى من له عذر، فقال: إلا الذين يصلون ، وهم قوم قصدوا الهجرة إلى الرسول ونصرته، وكان بينهم وبين المسلمين عهد، فأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول وإلى أصحابه؛ لأنه يخاف الله فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا؛ لأنهم أقاربه، أو لأنه يخاف على أولاده الذين هم في أيديهم، فعلى هذا القول يكون استثناء منقطعا؛ لأن هؤلاء المستثنين لم يدخلوا تحت قوله: فما لكم في المنافقين فئتين ، والمستثنون على هذا مؤمنون.

                                                                                                                                                                                                                                      و بينكم وبينهم ميثاق يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر في محل جر صفة لـ "قوم"، ويجوز أن يكون "بينكم" وحده صفة لـ "قوم"، فيكون في محل جر ويتعلق بمحذوف، و "ميثاق" على هذا رفع بالفاعلية؛ لأن الظرف اعتمد على موصوف، وهذا الوجه أقرب؛ لأن الوصف بالمفرد أصل للوصف بالجملة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أو جاءوكم فيه وجهان، أظهرهما: أنه عطف على الصلة، كأنه قيل: أو إلا الذين جاؤوكم حصرت صدورهم، فيكون المستثنى صنفين من الناس، أحدهما واصل إلى قوم معاهدين، والآخر من جاء غير مقاتل للمسلمين ولا لقومه. والثاني: أنه عطف على صفة "قوم"، وهي قوله: بينكم وبينهم ميثاق ، فيكون المستثنى صنفا واحدا يختلف باختلاف من يصل إليه من معاهد وكافر. واختار الأول الزمخشري وابن عطية، قال الزمخشري: الوجه العطف على الصلة؛ لقوله: فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم بعد قوله: فخذوهم واقتلوهم ، فقرر أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي [ ص: 65 ] التعرض لهم، وترك الإيقاع بهم. فإن قلت: كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء واستحقاق ترك التعرض للاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة "قوم"، ويكون قوله: فإن اعتزلوكم تقريرا لحكم اتصالهم بالكافين، واختلاطهم بهم وجريهم على سننهم ؟ قلت: هو جائز، ولكن الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما كان أظهر لوجهين، أحدهما من جهة الصناعة، والثاني من جهة المعنى: أما الأول فلأن عطفه على الصلة لكون النسبة فيه إسنادية، وذلك أن المستثنى محدث عنه محكوم له بخلاف حكم المستثنى منه، فإذا قدرت العطف على الصلة كان محدثا عنه بما عطفته، بخلاف ما إذا عطفته على الصفة، فإنه يكون تقييدا في "قوم" الذين هم قيد في الصلة المحدث عن صاحبها، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسنادية وبين أن تكون تقييدية، كان جعلها إسنادية أولى لاستقلالها. والثاني من جهة المعنى: وذلك أن العطف على الصلة يؤدي إلى أن سبب ترك التعرض لهم تركهم القتال وكفهم عنه، وهذا سبب قريب، والعطف على الصفة يؤدي إلى أن سبب ترك التعرض لهم وصولهم إلى قوم كافين عن القتال، وهذا سبب بعيد، وإذا دار الأمر بين سبب قريب واخر بعيد، فاعتبار القريب أولى.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على إثبات "أو"، وفي مصحف أبي: "جاؤوكم" من غير "أو"، وخرجها الزمخشري على أحد أربعة أوجه: إما البيان لـ "يصلون"، أو البدل منه، أو الصفة لقوم بعد صفة، أو الاستئناف. [ ص: 66 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: وهي وجوه محتملة، وفي بعضها ضعف، وهو البيان والبدل؛ لأن البيان لا يكون في الأفعال، ولأن البدل لا يتأتى؛ لكونه ليس إياه، ولا بعضه، ولا مشتملا عليه. انتهى. ويحتاج الجواب عنه إلى تأمل ونظر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: حصرت صدورهم فيه سبعة أوجه، أحدها: أنه لا محل لهذه الجملة، بل جيء بها للدعاء عليهم بضيق صدورهم عن القتال، وهذا منقول عن المبرد، إلا أن الفارسي رد عليه بأنا مأمورون بأن ندعو على الكفار بإلقاء العداوة بينهم، فنقول: اللهم أوقع العداوة بين الكفار، لكن يكون قوله: أو يقاتلوا قومهم نفي ما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم. وقد أجاب عن هذا الرد بعض الناس، فقال ابن عطية: يخرج قول المبرد على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقير لهم؛ أي: هم أقل وأحقر ومستغنى عنهم، كما تقول إذا أردت هذا المعنى: لا جعل الله فلانا علي ولا معي، بمعنى: أستغني عنه وأستقل دونه. وأجاب غيره بأنه يجوز أن يكون سؤالا لموتهم على أن قوله: "قومهم" قد يحتمل أن يعبر به عمن ليسوا منهم، بل عن معاديهم.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن "حصرت" حال من فاعل "جاؤوكم"، وإذا وقعت الحال فعلا ماضيا ففيها خلاف؛ هل يحتاج إلى اقترانه بـ "قد" أم لا ؟ والراجح عدم الاحتياج لكثرة ما جاء منه، فعلى هذا لا تضمر "قد" قبل "حصرت"، ومن اشترط ذلك قدرها هنا. والثالث: أن "حصرت" صفة لحال محذوفة، تقديره: أو جاؤوكم قوما حصرت صدورهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وسماها أبو البقاء حالا موطئة، وهذا [ ص: 67 ] الوجه يعزى للمبرد أيضا. الرابع: أن يكون في محل جر صفة لقوم بعد صفة، و "أو جاءوكم" معترض. قال أبو البقاء: يدل عليه قراءة من أسقط "أو" وهو أبي، كذا نقله عنه الشيخ، والذي رأيته في إعرابه إسقاط "أو جاؤوكم" جميعه، وهذا نصه، قال: أحدهما: هو جر صفة لقوم وما بينهما صفة أيضا، و "جاؤوكم" معترض، وقد قرأ بعض الصحابة: "بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم"، بحذف "أو جاؤوكم" هذا نصه، وهو أوفق لهذا الوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن يكون بدلا من "جاؤوكم" بدل اشتمال؛ لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره، نقله الشيخ عن أبي البقاء أيضا. السادس: أنه خبر بعد خبر، وهذه عبارة الزجاج، يعني: أنها جملة مستأنفة، أخبر بها عن ضيق صدور هؤلاء عن القتال بعد الإخبار عنهم بما تقدم. قال ابن عطية بعد حكاية قول الزجاج: يفرق بين الحال وبين خبر مستأنف في قولك: "جاء زيد ركب الفرس"، أنك إذا أردت الحال بقولك: "ركب الفرس"، قدرت "قد"، وإن أردت خبرا بعد خبر لم تحتج إلى تقديرها. السابع: أنه جواب شرط مقدر تقديره: إن جاؤوكم حصرت، وهو رأي الجرجاني، وفيه ضعف لعدم الدلالة على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور: "حصرت" فعلا ماضيا، والحسن وقتادة ويعقوب: [ ص: 68 ] "حصرة" نصبا على الحال بوزن "نبقة"، وهي تؤيد كون "حصرت" حالا، ونقلها المهدوي عن عاصم في رواية حفص، وروي عن الحسن أيضا: "حصرات، وحاصرات".

                                                                                                                                                                                                                                      وهاتان القراءتان تحتملان أن تكون "حصرات، وحاصرات" نصبا على الحال، أو جرا على الصفة لـ "قوم"؛ لأن جمع المؤنث السالم يستوي جره ونصبه، إلا أن فيهما ضعفا من حيث إن الوصف الرافع لظاهر الفصيح فيه أن يوحد كالفعل، أو يجمع جمع تكسير ويقل جمعه تصحيحا، تقول: مررت بقوم ذاهب جواريهم، أو قيام جواريهم، ويقل: "قائمات جواريهم"، وقرئ "حصرة" بالرفع على أنه خبر مقدم، و "صدورهم" مبتدأ، والجملة حال أيضا. وقال أبو البقاء: وإن كان قد قرئ "حصرة" بالرفع، فعلى أنه خبر، و "صدورهم" مبتدأ، والجملة حال.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أن يقاتلوكم أصله: عن أن، فلما حذف حرف الجر، جرى الخلاف المشهور؛ أهي في محل جر أو نصب ؟ والحصر: الضيق، وأصله في المكان، ثم توسع فيه، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1638 - ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنينا



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فلقاتلوكم" اللام جواب "لو" لعطفه على الجواب، وقال ابن عطية: هي لام المحاذاة والازدواج بمثابة الأولى، لو لم تكن الأولى كنت تقول: "لقاتلوكم"، وهي تسمية غريبة، وقد سبقه إليها مكي. والجمهور على [ ص: 69 ] "فلقاتلوكم" من المفاعلة. ومجاهد وجماعة: "فلقتلوكم" ثلاثيا، والحسن والجحدري: "فلقتلوكم" بالتشديد، وقرأ الجحدري: "السلم" بفتح السين وسكون اللام، والحسن بكسرها وسكون اللام. قوله: لكم عليهم سبيلا : "لكم" متعلق بـ "جعل"، و "سبيلا" مفعول "جعل"، و "عليهم" حال من "سبيلا"؛ لأنه في الأصل صفة نكرة قدم عليها، ويجوز أن تكون "جعل" بمعنى: صير، فيكون "سبيلا" مفعولا أول، و "عليهم" مفعول ثان قدم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية