الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 3 ) وتقدم أيضا إعراب حرمت عليكم الميتة وأصلها. وقدم هنا لفظ الجلالة في قوله: وما أهل به لغير الله ، وأخرت هناك؛ لأنها في البقرة فاصلة، أو تشبه الفاصلة بخلافها هنا، فإنها بعدها معطوفات. والموقوذة: هي التي وقذت؛ أي: ضربت بعصا ونحوها حتى ماتت، من وقذه؛ أي: ضربه حتى استرخى، ومنه: وقذه النعاس؛ أي: غلبه، ووقذه الحلم؛ أي: سكنه، وكأن المادة دالة على سكون واسترخاء. والمتردية: من تردى؛ أي: سقط من علو فهلك، ويقال: ما يدري أين ردى؛ أي: ذهب، وردى وتردى بمعنى هلك، والنطيحة: فعيلة بمعنى مفعولة، وكان من حقها ألا تدخلها تاء التأنيث، كقتيل وجريح، إلا أنها جرت مجرى الأسماء، أو لأنها لم يذكر موصوفها، كذا قاله أبو البقاء، وفيه نظر؛ لأنهم إنما يلحقون التاء إذا لم يذكر الموصوف لأجل اللبس، نحو: مررت بقتيلة بني فلان؛ لئلا يلبس المذكر بالمؤنث، وهنا اللبس منتف، وأيضا فحكم الذكر والأنثى في هذا سواء. وما أكل السبع": "ما" بمعنى الذي، وعائده محذوف؛ أي: وما أكله السبع، ومحل هذا الموصول الرفع عطفا على ما لم يسم فاعله، وهذا غير ماش على ظاهرة؛ لأن ما أكله السبع وفرغ منه لا يذكى، ولذلك قال أبو القاسم الزمخشري: وما أكل بعضه السبع. وقرأ الحسن، والفياض، وأبو حيوة: [ ص: 196 ] "السبع" بسكون الباء، وهو تسكين للمضموم. ونقل فتح السين والباء معا، والسبع: كل ذي ناب ومخلب، كالأسد والنمر، ويطلق على ذي المخلب من الطيور أيضا، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1692 - وسباع الطير تغدو بطانا تتخطاهم فما تستقل



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إلا ما ذكيتم فيه قولان، أحدهما: أنه مستثنى متصل، والقائلون بأنه استثناء متصل اختلفوا؛ فمنهم من قال: هو مستثنى من قوله: "والمنخنقة" إلى قوله: "وما أكل السبع". وقال أبو البقاء: والاستثناء راجع إلى المتردية، والنطيحة، وأكيلة السبع، وليس إخراجه المنخنقة منه بجيد. ومنهم من قال: هو مستثنى من "ما أكل السبع" خاصة. والقول الثاني: أنه منقطع؛ أي: ولكن ما ذكيتم من غيرها فحلال، أو فكلوه، وكأن هذا القائل رأى أنها وصلت بهذه الأسباب إلى الموت، أو إلى حالة قريبة منه، فلم تفد تذكيتها عنده شيئا. والتذكية: الذبح، وذكت النار: ارتفعت، وذكى الرجل: أسن، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1693 - على أعراقه تجري المذاكي     وليس على تقلبه وجهده



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وما ذبح على النصب رفع أيضا عطفا على "الميتة". واختلفوا في النصب، فقيل: هي حجارة كانوا يذبحون عليها، فـ "على" هنا واضحة، وقيل: هي للأصنام؛ لأنها تنصب لتعبد، فعلى هذا في "على" وجهان، أحدهما: أنها بمعنى اللام؛ أي: وما ذبح لأجل الأصنام. والثاني: هي على [ ص: 197 ] بابها، ولكنها في محل نصب على الحال؛ أي: وما ذبح مسمى على الأصنام، كذا ذكره أبو البقاء، وفيه النظر المعروف، وهو كونه قدر المتعلق شيئا خاصا. والجمهور على "النصب" بضمتين، فقيل: هو جمع "نصاب"، وقيل: هو مفرد، ويدل له قول الأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      1694 - وذا النصب المنصوب لا تقربنه     ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا



                                                                                                                                                                                                                                      وفيه احتمال. وقرأ طلحة بن مصرف بضم النون وإسكان الصاد، وهي تخفيف القراءة الأولى. وقرأ عيسى بن عمر: "النصب" بفتحتين، قال أبو البقاء: وهو اسم بمعنى المنصوب، كالقبض والنقص بمعنى: المقبوض والمنقوص، والحسن: "النصب" بفتح النون وسكون الصاد، وهو مصدر واقع موقع المفعول به، ولا يجوز أن تكون تخفيفا لقراءة عيسى بن عمر؛ لأن الفتحة لا تخفف.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وأن تستقسموا بالأزلام "أن" وما في حيزها في محل رفع عطفا على "الميتة". و "الأزلام": القداح، واحدها: زلم، و "زلم" بفتح الزاي وضمها. والقداح: سهام كانت العرب تطلب بها معرفة ما قسم لها من خير وشر، مكتوب على أحدها: : أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، والآخر غفل. وقيل: هي سهام الميسر؛ أي: القمار، ووجه ذكرها مع هذه المطاعم أنها كانت ترفع عند البيت معها. [ ص: 198 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ذلكم فسق" مبتدأ وخبر، واسم الإشارة راجع إلى الاستقسام بالأزلام خاصة، وهو مروي عن ابن عباس. وقيل: إلى جميع ما تقدم؛ لأن معناه: حرم عليكم تناول الميتة وكذا، فرجع اسم الإشارة إلى هذا المقدر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: اليوم يئس الذين كفروا "اليوم" ظرف منصوب بـ "يئس"، والألف واللام فيه للعهد، قيل: أراد به يوم عرفة، وهو يوم الجمعة عام حجة الوداع، نزلت هذه الآية فيه بعد العصر. وقيل: هو يوم دخوله عليه السلام مكة سنة تسع، وقيل: ثمان. وقال الزجاج - وتبعه الزمخشري -: إنها ليست للعهد، ولم يرد باليوم معينا، وإنما أراد به الزمان الحاضر، وما يدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك: كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب، لا تريد بالأمس الذي قبل يومك، ولا باليوم الزمن الحاضر فقط، ونحوه: "الآن" في قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1695 - الآن لما ابيض مسربتي     وعضضت من نابي على جذم



                                                                                                                                                                                                                                      ومثله أيضا قول زهير:


                                                                                                                                                                                                                                      1696 - وأعلم ما في اليوم والأمس قبله     ولكنني عن علم ما في غد عم



                                                                                                                                                                                                                                      لم يرد بهذه حقائقها. والجمهور على "يئس" بالهمز، وقرأ يزيد [ ص: 199 ] ابن القعقاع: "ييس" بياءين من غير همزة، ورويت أيضا عن أبي عمرو، يقال: يئس ييئس وييئس، بفتح عين المضارع وكسرها، وهو شاذ، ويقال: "أيس" أيضا مقلوب من "يئس"، فوزنه عفل، ويدل على القلب كونه لم يعل، إذ لو لم يقدر ذلك للزم إلغاء المقتضي، وهو تحرك حرف العلة وانفتاح ما قبله، لكنه لما كان في معنى ما لم يعل صح. واليأس: انقطاع الرجاء، وهو ضد الطمع. و "من دينكم" متعلق بـ "يئس"، ومعناها ابتداء الغاية، وهو على حذف مضاف؛ أي: من إبطال أمر دينكم. والكلام في قوله: "اليوم أكملت"، كالكلام على "اليوم" قبله. و "عليكم" متعلق بـ "أتممت"، ولا يجوز تعلقه بـ "نعمتي" وإن كان فعلها يتعدى بـ "على"، نحو: أنعم الله عليه وأنعمت عليه ؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله، إلا أن ينوب منابه. قال أبو البقاء: فإن جعلته على التبيين؛ أي: أتممت، أعني: عليكم جاز. ولا حاجة إلى ما ادعاه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ورضيت لكم الإسلام دينا في "رضي" وجهان، أحدهما: أنه متعد لواحد وهو الإسلام. و "دينا" على هذا حال. وقيل: هو مضمن معنى صير وجعل، فيتعدى لاثنين أولهما "الإسلام"، والثاني: "دينا". و "لكم" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ "رضي"، والثاني: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من “الإسلام"، ولكنه قدم عليه. قوله: "فمن اضطر" قد تقدم الكلام على هذه الآية، وما قرئ فيها في البقرة، فأغنى عن إعادته.

                                                                                                                                                                                                                                      و "في مخمصة" متعلق بـ "اضطر"، والمخمصة: المجاعة؛ لأنها تخمص لها البطون؛ أي: تضمر، وهي صفة محمودة في النساء، يقال: رجل خمصان، [ ص: 200 ] وامرأة خمصانة، ومنه: أخمص القدم لدقتها، ويستعمل في الجوع والغرث، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1697 - تبيتون في المشتى ملاء بطونكم     وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      1698 - كلوا في بعض بطنكم تعفوا     فإن زمانكم زمن خميص

                                                                                                                                                                                                                                      وصف الزمان بذلك مبالغة، كقولهم: نهاره صائم وليله قائم. و "غير" نصب على الحال. والجمهور على "متجانف" بألف وتخفيف النون من تجانف. وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي : "متجنف" بتشديد النون دون ألف. قال أبو محمد بن عطية: وهي أبلغ من "متجانف" في المعنى؛ لأن شدة العين تدل على مبالغة وتوغل في المعنى. و "لإثم" متعلق بـ "متجانف" واللام على بابها، وقيل: هي بمعنى "إلى"؛ أي: غير مائل إلى إثم، ولا حاجة إليه، وقد تقدم معنى هذه اللفظة واشتقاقها عند قوله: فمن خاف من موص جنفا . وقوله: فإن الله غفور رحيم جملة: إما في محل جزم أو رفع على حسب ما قيل في "من"، وكذلك القول في الفاء: إما واجبة أو جائزة، والعائد على كلا التقديرين محذوف؛ أي: فإن الله غفور له.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية