الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 67 ) قوله تعالى: يا أيها الرسول : ناداه بأشرف الصفات البشرية. وقوله: "بلغ ما أنزل إليك" وهو قد بلغ، فأجاب الزمخشري بأن المعنى: جميع ما أنزل إليك؛ أي: أي شيء أنزل غير مراقب في تبليغه أحدا، ولا خائف أن ينالك مكروه. وأجاب ابن عطية بقريب منه، قال: أمر رسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال؛ لأنه كان قد بلغ، وأجاب غيرهما بأن المعنى على الديمومة، كقوله: يا أيها النبي اتق الله ، يا أيها الذين آمنوا آمنوا ، وإنما ذكرت هذا؛ لأنه ينفع في سؤال سيأتي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "ما" يحتمل أن تكون اسمية بمعنى الذي، ولا يجوز أن تكون نكرة موصوفة؛ لأنه مأمور بتبليغ الجميع كما مر، والنكرة لا تفي بذلك، فإن تقديرها: بلغ شيئا أنزل إليك، وفي "أنزل" ضمير مرفوع يعود على ما قام مقام الفاعل، وتحتمل على بعد أن تكون "ما" مصدرية، وعلى هذا فلا ضمير في "أنزل"؛ لأن "ما" المصدرية حرف على الصحيح، فلا بد من شيء يقوم مقام الفاعل، وهو الجار بعده، وعلى هذا فيكون التقدير: بلغ الإنزال، ولكن الإنزال لا يبلغ، فإنه معنى، إلا أن يراد بالمصدر أنه واقع موقع المفعول به، ويجوز أن يكون المعنى: اعلم بتبليغ الإنزال، فيكون مصدرا على بابه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ؛ أي: وإن لم تفعل التبليغ، فحذف المفعول به، ولم يقل: وإن لم تبلغ فما بلغت، لما تقدم في قوله تعالى: "فإن لم تفعلوا" في البقرة، والجواب لا بد أن يكون مغايرا للشرط لتحصل الفائدة، ومتى اتحدا اختل الكلام، لو قلت: إن أتى زيد فقد [ ص: 350 ] جاء، لم يجز، وظاهر قوله تعالى: "وإن لم تفعل فما بلغت" اتحاد الشرط والجزاء، فإن المعنى يؤول ظاهرا إلى: وإن لم تفعل لم تفعل. وأجاب الناس عن ذلك بأجوبة، أسدها ما قاله الأستاذ أبو القاسم الزمخشري، وقد أجاب بجوابين، أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالات وكتمها كلها، كأنه لم يبعث رسولا، كان أمرا شنيعا لا خفاء بشناعته، فقيل: إن لم تبلغ أدنى شيء وإن كلمة واحدة، فكنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، كما عظم قتل النفس في قوله: فكأنما قتل الناس جميعا . والثاني: أن يراد: وإن لم تفعل ذلك، فلك ما يوجب كتمان الوحي كله من العقاب، فوضع السبب موضع المسبب، ويؤيده: فأوحى الله إلي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب ابن عطية، فقال: أي: وإن تركت شيئا فقد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتد به، فمعنى "وإن لم تفعل": وإن لم تستوف، ونحو هذا قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1767 - سئلت فلم تبخل، ولم تعط نائلا فسيان لا حمد عليك ولا ذم



                                                                                                                                                                                                                                      أي: فلم تعط ما يعد نائلا، وإلا يتكاذب البيت، يعني: بالتكاذب أنه قد قال: "فلم تبخل"، فيتضمن أنه أعطى شيئا، فقوله بعد ذلك: "ولم تعط نائلا"، لو لم يقدر نائلا يعتد به تكاذب. وفيه نظر؛ فإن قوله: "لم تبخل، ولم تعط" لم يتواردا على محل واحد حتى يتكاذبا، فلا يلزم من عدم التقدير الذي قدره ابن عطية كذب البيت، وبهذا الذي ذكرته يتبين فساد قول من زعم أن هذا [ ص: 351 ] البيت مما تنازع فيه ثلاثة عوامل: سئلت، وتبخل، وتعط؛ وذلك لأن قوله: "ولم تبخل" على قول هذا القائل متسلط على "طائل"، فكأنه قيل: فلم تبخل بطائل، وإذا لم يبخل به فقد بذله وأعطاه، فيناقضه قوله بعد ذلك: ولم تعط نائلا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أفسد ابن الخطيب الرازي الجواب المتقدم، واختار جوابا من عنده، فقال: أجاب الجمهور بإن لم تبلغ واحدا منها، كنت كمن لم يبلغ شيئا. وهذا ضعيف؛ لأن من ترك البعض وأتى بالبعض، فإن قيل: إنه ترك الكل كان كذبا، ولو قيل: إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل، فهذا هو المحال الممتنع، فسقط هذا الجواب، والأصح عندي أن يقال: خرج هذا الجواب على قانون قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1768 - أنا أبو النجم وشعري شعري



                                                                                                                                                                                                                                      ومعناه: أن شعري قد بلغ في الكمال، والفصاحة، والمتانة إلى حيث متى قيل: إنه شعري، فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يزاد عليها، وهذا الكلام يفيد المبالغة التامة من هذا الوجه، فكذا هنا، كأنه قال: فإن لم تبلغ رسالاته فما بلغت رسالاته، يعني: أنه لا يمكن أن يوصف ترك التبليغ بتهديد أعظم من أنه ترك التبليغ، فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: وما ضعف به جواب الجمهور لا يضعف به؛ لأنه قال: فإن قيل إنه ترك الكل كان كذبا، ولم يقولوا ذلك، إنما قالوا: إن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإن لم تؤد فكأنك أغفلت أداءها جميعها، كما [ ص: 352 ] أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها؛ لإدلاء كل منها بما يدلي به غيرها، وكونها كذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به، فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتد به. قلت: هذا الكلام الأنيق، أعني: ما وقع به الجواب عن اعتراض الرازي كلام الزمخشري، أخذه ونقله إلى هنا. وتمام كلام الزمخشري أن قال بعد قوله: "غير مؤمن"، وعن ابن عباس رضي الله عنه: "إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتي"، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعا، فأوحى الله إلي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك، وضمن لي العصمة فقويت ". قال الشيخ: وأما ما ذكر من أن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل محال ممتنع، فلا استحالة فيه؛ لأن لله تعالى أن يرتب على الذنب اليسير العقاب العظيم، وبالعكس، ثم مثل بالسارق الآخذ خفية يقطع ويرد ما أخذ، وبالغاصب يؤخذ منه ما أخذ دون قطع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الواحدي: أي: إن يترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ؛ لأن تركه البعض محبط لإبلاغ ما بلغ، وجرمه في كتمان البعض كجرمه في كتمان الكل في أنه يستحق العقوبة من ربه، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئا مما أوحى الله إليه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي، فقد أعظم على الله الفرية"، والله تعالى يقول: "يا أيها الرسول بلغ"، ولو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الوحي، لكتم قوله تعالى: وتخفي في نفسك ما الله مبديه الآية. وهذا قريب من الأجوبة المتقدمة. هذا ما وقفت عليه في الجواب في هذه الآية الكريمة. ونظير هذه الآية في السؤال المتقدم الحديث [ ص: 353 ] الصحيح عن عمر بن الخطاب: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله "، فإن نفس الجواب هو نفس الشرط، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقدير تحصل به المغايرة، فقالوا: تقديره: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا، فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا، ويمكن أن يأتي فيه جواب الرازي الذي اختاره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر: "رسالاته" جمعا، والباقون: "رسالته" بالتوحيد. ووجه الجمع أنه عليه السلام بعث بأنواع شتى من الرسالة، كأصول التوحيد والأحكام على اختلاف أنواعها، والإفراد واضح؛ لأن اسم الجنس المضاف يعم جميع ذلك، وقد قال بعض الرسل: " أبلغكم رسالات ربي " ، وبعضهم قال: "رسالة ربي" اعتبارا للمعنيين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية