الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 94 ) قوله تعالى: ليبلونكم : جواب قسم محذوف؛ أي: والله ليبلونكم، وقد تقدم أنه تجب اللام وإحدى النونين في مثل هذا الجواب. قوله: "بشيء" متعلق بـ "ليبلونكم"؛ أي: ليختبرنكم بشيء. وقوله: "من الصيد": في محل جر صفة لـ "شيء" فيتعلق بمحذوف، و "من" الظاهر أنها تبعيضية؛ لأنه لم يحرم صيد الحلال، ولا صيد الحل، ولا صيد البحر. وقل: إنها لبيان الجنس. وقال مكي : وقيل "من" لبيان الجنس، فلما قال: "بشيء" لم يعلم من أي جنس هو، فبين فقال: "من الصيد"، كما تقول: لأعطينك شيئا من الذهب، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ثم قال: وقيل: إنها للتبعيض. وكونها للبيان فيه نظر؛ لأن الصحيح أنها لا تكون للبيان، والقائل بأنها للبيان يشترط أن يكون المبين بها معرفا بأل الجنسية، كقوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان ، وبه قال ابن عطية أيضا، والزجاج هو الأصل في ذلك، فإنه قال: وهذا كما تقول: متحننك بشيء من الرزق، وكما قال تعالى: فاجتنبوا الرجس من الأوثان .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "تناله" في محل جر؛ لأنه صفة ثانية لـ "شيء"، وأجاز أبو البقاء [ ص: 416 ] أن يكون حالا: إما من الصيد، وإما من "شيء"، وإن كان نكرة؛ لأنه قد وصف فتخصص، واستبعد الشيخ جعله حالا من الصيد، ووجه الاستبعاد أنه ليس المقصود بالحديث عنه. وقرأ الجمهور: "تناله" بالمنقوطة فوق لتأنيث الجمع، وابن وثاب والنخعي بالمنقوطة من تحت؛ لأن تأنيثه غير حقيقي. وقوله: ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا : للناس فيه قولان، أحدهما: أن هذا من باب التوكيد، ولا يضر حرف العطف في ذلك، وهذا كقوله تعالى: كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ، حتى إن الشيخ جمال الدين بن مالك يجعل هذا من التوكيد اللفظي المبوب له في النحو. والثاني: أنه ليس للتأكيد بل للتأسيس، إلا أنه جعل التغاير حاصلا بتقدير المتعلقات، فمنها أن التقدير: اتقوا الشرك وآمنوا إيمانا كاملا، ثم اتقوا وآمنوا؛ أي: ثم ثبتوا على التقوى والإيمان المتقدمين، واستمروا على هذه الحالة، ثم اتقوا، ثم تناهوا في التقوى وتوغلوا فيها، وأحسنوا للناس وواسوهم بأموالهم، وإليه نحا أبو القاسم الزمخشري بعبارة قريبة من هذا المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: "ليعلم الله" اللام متعلقة بـ "ليبلونكم"، والمعنى: ليتميز أو ليظهر لكم، وقد مضى تحقيقه في البقرة، وأن هذه تسمى لام كي، وقرأ بعضهم: "ليعلم" بضم الياء وكسر اللام من أعلم، والمفعول الأول على هذه القراءة محذوف؛ أي: ليعلم الله عباده، والمفعول الثاني هو قوله: "من يخافه"، فـ "أعلم" منقولة بهمزة التعدية من "علم" المتعدية لواحد، بمعنى [ ص: 417 ] عرف. قوله: "بالغيب" في محل نصب على الحال من فاعل "يخافه"؛ أي: يخافه ملتبسا بالغيب، وقد تقدم معناه في البقرة. وجوز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه، أحدها: ما ذكرته، والثاني: أنه حال من "من" في "من يخافه"، والثالث: أن الباء بمعنى "في"، والغيب مصدر واقع موقع غائب؛ أي: يخافه في المكان الغائب عن الخلق، فعلى هذا يكون متعلقا بنفس الفعل قبله، وعلى الأولين يكون متعلقا بمحذوف على ما عرف.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية