الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 71 ) قوله تعالى: ألا تكون قرأ البصري والأخوان برفع النون، والباقون بنصبها. فمن رفع فـ "أن" عنده مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف تقديره: أنه، و "لا" نافية، و "تكون" تامة، و "فتنة" فاعلها، والجملة خبر "أن"، وهي مفسرة لضمير الأمر والشأن، وعلى هذا فـ "حسب" هنا لليقين لا للشك، ومن مجيئها لليقين قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1780 - حسبت التقى والجود خير تجارة رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: تيقنت؛ لأنه لا يليق الشك بذك، وإنما اضطررنا إلى جعلها في الآية الكريمة بمعنى اليقين؛ لأن "أن" المخففة لا تقع إلا بعد يقين، فأما قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1781 - أرجو وآمل أن تدنو مودتها     وما إخال لدينا منك تنويل



                                                                                                                                                                                                                                      فظاهره أنها مخففة لعدم إعمالها، وقد وقعت بعد "أرجو، وآمل" وليسا بيقين. والجواب من وجهين، أحدهما: أن "أن" ناصبة، وإنما أهملت [ ص: 366 ] حملا على "ما" المصدرية، ويدل على ذلك أنها على ذلك أنها لو كانت مخففة، لفصل بينها وبين الجملة الفعلية بما سنذكره، ويكون هذا مثل قول الله تعالى: لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وكقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1782 - يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما     وحيثما كنتما لقيتما رشدا




                                                                                                                                                                                                                                      أن تحملا حاجة لي خف محملها     تستوجبا نعمة عندي بها ويدا




                                                                                                                                                                                                                                      أن تقرآن على أسماء ويحكما     مني السلام وإلا تشعرا أحدا



                                                                                                                                                                                                                                      فقوله: "أن تقرآن" بدل من "حاجة"، وقد أهمل "أن"، ومثله قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1783 - إني زعيم يا نويـ     قة إن نجوت من الرزاح




                                                                                                                                                                                                                                      ونجوت من وصب العدو     و[ من الغدو ] إلى الرواح




                                                                                                                                                                                                                                      أن تهبطين بلاد قو     م يرتعون من الطلاح



                                                                                                                                                                                                                                      وكيفما قدر فيما ذكرته من الأبيات يلزم أحد شذوذين، قد قيل باحتمال كل منهما: إما إهمال "أن"، وإما وقوع المخففة بعد غير علم، وعدم الفصل بينها وبين الجملة الفعلية.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني من وجهي الجواب: أن رجاءه وأمله قويا حتى قربا من اليقين، فأجراهما مجراه في ذلك. وأما قول الشاعر: [ ص: 367 ]


                                                                                                                                                                                                                                      1784 - علموا أن يؤملون فجادوا     قبل أن يسألوا بأعظم سؤل



                                                                                                                                                                                                                                      فالظاهر أنها المخففة، وشذ عدم الفصل، ويحتمل أن تكون الناصبة شذ وقوعها بعد العلم وشذ إهمالها، ففي الأول شذوذ واحد وهو عدم الفصل، وفي الثاني شذوذان: وقوع الناصبة بعد العلم، وإهمالها حملا على "ما" أختها.

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء هنا على الواجب - عند بعضهم - أو الأحسن - عند آخرين - وهو الفصل بين "أن" الخفيفة وبين خبرها إذا كان جملة فعلية متصرفة غير دعاء، والفاصل إما نفي كهذه الآية، وإما حرف تنفيس، كقوله تعالى: علم أن سيكون منكم مرضى ، ومثله: علمت أن سوف تقوم، وإما "قد"، كقوله تعالى: "ونعلم أن قد صدقتنا"، وإما "لو" - وهي غريبة - كقوله: "وأن لو استقاموا"، "أن لو كانوا يعلمون الغيب". وتحرزت بالفعلية من الاسمية، فإنها لا تحتاج إلى فاصل، كقوله تعالى: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ، وكقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1785 - في فتية كسيوف الهند قد علموا     أن هالك كل من يخفى وينتعل [ ص: 368 ]



                                                                                                                                                                                                                                      وبالمتصرفة من غير المتصرفة، فإنها لا تحتاج إلى فاصل، كقوله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن عسى أن يكون ، وبغير دعاء من الواقعة دعاء، كقوله تعالى: "أن غضب الله" في قراءة نافع.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن نصب "تكون"، فـ "أن" عنده هي الناصبة للمضارع، دخلت على فعل منفي بـ "لا"، و "لا" لا يمنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها من ناصب ولا جازم ولا جار، فالناصب كهذه الآية، والجازم كقوله تعالى: إلا تفعلوه تكن فتنة ، إلا تنصروه فقد نصره الله ، والجار نحو: : جئت بلا زاد.

                                                                                                                                                                                                                                      و "حسب" هنا على بابها من الظن، فالناصبة لا تقع بعد علم، كما أن المخففة لا تقع بعد غيره، وقد شذ وقوع الناصبة بعد يقين وهو نص فيه، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1786 - نرضى عن الناس إن الناس قد علموا     أن لا يدانينا من خلقه بشر



                                                                                                                                                                                                                                      وليس لقائل أن يقول: العلم هنا بمعنى الظن؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه، والأكثر بعد أفعال الشك النصب بـ "أن"، ولذلك أجمع على النصب في قوله تعالى: أحسب الناس أن يتركوا ، وأما قوله تعالى: أفلا يرون ألا يرجع إليهم ، فالجمهور على الرفع؛ لأنه الرؤية تقع على العلم. [ ص: 369 ] والحاصل أنه متى وقعت بعد علم وجب أن تكون المخففة، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلم ولا شك وجب أن تكون الناصبة، وإن وقعت بعد فعل يحتمل اليقين والشك جاز فيها وجهان باعتبارين: إن جعلناه يقينا جعلناها المخففة ورفعنا ما بعدها، وإن جعلناه شكا جعلناها الناصبة ونصبنا ما بعدها، والآية الكريمة من هذا الباب، وكذلك قوله تعالى: أفلا يرون ألا يرجع إليهم ، وقوله: أحسب الناس أن يتركوا ، لكن لم يقرأ في الأولى إلا بالرفع، ولا في الثانية إلا بالنصب؛ لأن القراءة سنة متبعة. وهذا تحرير العبارة فيها، وإنما قلت ذلك؛ لأن بعضهم يقول: يجوز فيها بعد أفعال الشك وجهان، فيوهم هذا أنه يجوز فيها أن تكون المخففة، والفعل قبلها باق على معناه من الشك، لكن يريد ما ذكرته لك من الصلاحية اللفظية بالاعتبارين المتقدمين، ولهذا قال الأستاذ الزمخشري : فإن قلت: كيف دخل فعل الحسبان على "أن" التي هي للتحقيق ؟ قلت: نزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم. والسبب المقتضي لوقوع المخففة بعد اليقين، والناصبة بعد غيره، وجواز الوجهين فيما تردد؛ ما ذكروه: وهو "أن" المخففة تدل على ثبات الأمر واستقراره؛ لأنها التوكيد كالمشددة، والعلم وبابه كذلك، فناسب أن توقعها بعد اليقين للملاءمة بينهما، ويدل على ذلك وقوعها مشددة بعد اليقين، كقوله تعالى: ويعلمون أن الله هو الحق المبين ، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ، ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ، إلى غير ذلك، والنوع الذي لا يدل على ثبات واستقرار تقع بعده الناصبة، كقوله تعالى: والذي أطمع أن يغفر [ ص: 370 ] لي ، نخشى أن تصيبنا دائرة ، فخشينا أن يرهقهما ، أأشفقتم أن تقدموا ، إلى غير ذلك، والنوع المحتمل للأمرين تقع بعده تارة المخففة، وتارة الناصبة كما تقدم من الاعتبارين، وعلى كلا التقديرين، أعني: كونها المخففة أو الناصبة، فهي سادة مسد المفعولين عند جمهور البصريين، ومسد الأول والثاني محذوف عند أبي الحسن ؛ أي: حسبوا عدم الفتنة كائنا أو حاصلا. وحكى بعض النحويين أنه ينبغي لمن رفع أن يفصل "أن" من "لا" في الكتابة؛ لأن الهاء المضمرة حائلة في المعنى، ومن نصب لم يفصل لعدم الحائل بينهما. قال أبو عبد الله : هذا ربما ساغ في غير المصحف، أما المصحف فلم يرسم إلى على الاتصال. انتهى. قلت: وفي هذه العبارة تجوز إذ لفظ الاتصال يشعر بأن تكتب "أنلا"، فتوصل "أن" بـ "لا" في الخط، فينبغي أن يقال: لا تثبت لها صورة، أو تثبت لها صورة منفصلة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ثم عموا وصموا كثير منهم في هذا التركيب خمسة أوجه، أحدها: أن الواو علامة جمع الفاعل، كما يلحق الفعل تاء التأنيث ليدل على تأنيث الفاعل، كقامت هند، وهذه اللغة جارية في المثنى وجمع الإناث أيضا، فيقال: قاما أخواك، وقمن أخواتك، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1787 - ... ... ... ...     وقد أسلماه مبعد وحميم

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 371 ]

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1788 - ولكن ديافي أبوه وأمه     بحوران يعصرن السليط أقاربه

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل بعضهم بقوله عليه السلام: " يتعاقبون فيكم ملائكة "، ويعبر النحاة عن هذه اللغة بلغة "أكلوني البراغيث"، ولكن الأفصح ألا تلحق الفعل علامة، وفرق النحويون بين لحاقه علامة التأنيث، وعلامة التثنية والجمع، بأن علامة التأنيث ألزم؛ لأن التأنيث في ذات الفاعل، بخلاف التثنية والجمع فإنه غير لازم.

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني: أن الواو ضمير عائد على المذكورين العائد عليهم واو "حسبوا"، و "كثير" بدل من هذا الضمير، كقولك: إخوتك قاموا كبيرهم وصغيرهم، ونحوه. الوجه الثالث: أن الواو ضمير أيضا، و "كثير" بدل منه، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله: أن الضمير في الوجه الأول مفسر بما قبله وهم بنو إسرائيل، وأما في هذا الوجه فهو مفسر بما بعده، وهذا أحد المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده، وهو أن يبدل منه ما يفسره، وهي مسألة خلاف، وقد تقدم تحريرها. الوجه الرابع: أن الضمير عائد على من تقدم، و "كثير" خبر مبتدأ محذوف، وقدره مكي تقديرين، أحدهما: قال: تقديره: العمي والصم كثير منهم. والثاني: العمى والصمم كثير منهم، ودل على ذلك قوله: ثم عموا وصموا ، فعلى تقديره الأول يكون "كثير" صادقا عليهم، و "منهم" صفة لـ "كثير"، وعلى التقدير الثاني يكون "كثير" صادقا على العمى [ ص: 372 ] والصمم لا عليهم، و "منهم" صفة له بمعنى أنه صادر منهم، وهذا الثاني غير ظاهر. وقدره الزمخشري فقال: أولئك كثير منهم. الوجه الخامس: أن "كثير" مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبر، ولا يقال: إن الفعل متى وقع خبرا وجب تأخيره؛ لأن ذلك مشروط بكون الفاعل مستترا، نحو: زيد قام؛ لأنه لو قدم فقيل: قام زيد؛ لألبس بالفاعل، فإن قيل: وهذا أيضا يلبس بالفاعل في لغة "أكلوني البراغيث"، فالجواب: أنها لغة ضعيفة لا نبالي بها. وضعف أبو البقاء هذا الوجه بمعنى آخر، فقال: لأن الفعل قد وقع في موضعه فلا ينوى به غيره. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أنه وقع موقعه، وإنما كان واقعا موقعه لو كان مجردا من علامة. ومثل هذه الآية أيضا قوله تعالى: وأسروا النجوى الذين ظلموا .

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على "عموا وصموا" بفتح العين والصاد، والأصل: عميوا وصمموا، كشربوا، فأعل الأول بالحذف، والثاني بالإدغام. وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من "عموا". قال الزمخشري : على تقدير: عماهم الله وصمهم؛ أي: رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته: إذا ضربته بالنيزك، وركبته: إذا ضربته بركبتك، ولم يعترض عليه الشيخ، وكان قد قال قبل ذلك بعد أن حكى القراءة: جرت مجرى: زكم الرجل، وأزكمه الله، وحم وأحمه الله، ولا يقال: زكمه الله ولا حمه، كما لا يقال: عميته ولا صممته، وهي أفعال جاءت مبنية [ ص: 373 ] للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهي متعدية ثلاثية، فإذا بنيت للفاعل صارت قاصرة، فإذا أردت بناءها للفاعل متعدية أدخلت همزة النقل، وهي نوع غريب في الأفعال. انتهى. فقوله: "كما لا يقال: عميته ولا صممته" يقتضي أن الثلاثي منها لا يتعدى، والزمخشري قد قال على تقدير: عماهم الله وصمهم، فاستعمل ثلاثية متعديا، فإن كان ما قاله الشيخ صحيحا، فينبغي أن يكون كلام أبي القاسم فاسدا أو بالعكس.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة: "كثيرا" نصبا على أنه نعت لمصدر محذوف، وتقدم غير مرة أنه عند سيبويه حال. وقال مكي : ولو نصبت "كثيرا" في الكلام، لجاز أن تجعله نعتا لمصدر محذوف؛ أي: عمى وصمما كثيرا. قلت: كأنه لم يطلع عليها قراءة، أو لم تصح عنده لشذوذها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فعموا" عطفه بالفاء، وقوله: "ثم عموا وصموا" عطفه بـ "ثم"، وهو معنى حسن، وذلك أنهم عقيب الحسبان حصل لهم العمى والصمم من غير تراخ، وأسند الفعلين إليهم، بخلاف قوله: "فأصمهم وأعمى أبصارهم"؛ لأن هذا فيمن لم يسبق له هداية، وأسند الفعل الحسن لنفسه في قوله: "ثم تاب الله عليهم"، وعطف قوله: "ثم عموا" بحرف التراخي؛ دلالة على أنهم تمادوا في الضلال إلى وقت التوبة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية