الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 92 ) قوله تعالى: وما كان لمؤمن أن : قد تقدم نظير هذا التركيب: ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين . و "إلا خطأ" فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه استثناء منقطع - وهو قول الجمهور - إن أريد بالنفي معناه، ولا يجوز أن يكون متصلا، إذ يصير المعنى: إلا خطأ فله قتله. والثاني: أنه متصل إن أريد بالنفي التحريم، ويصير المعنى: إلا خطأ بأن عرفه كافرا فقتله، ثم كشف الغيب أنه كان مؤمنا. الثالث: أنه استثناء مفرغ، ثم في نصبه ثلاثة احتمالات، الأول: أنه مفعول له؛ أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا لخطأ وحده. الثاني: أنه حال؛ أي: ما ينبغي له أن يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطإ. الثالث: أنه نعت مصدر محذوف؛ أي: إلا قتلا خطأ، ذكر [ ص: 70 ] هذه الاحتمالات الزمخشري. الرابع من الأوجه: أن تكون "إلا" بمعنى "ولا"، والتقدير: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ، ذكره بعض أهل العلم، حكى أبو عبيدة عن يونس، قال: سألت رؤبة بن العجاج عن هذه الآية، فقال: ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ، فأقام "إلا" مقام الواو، وهو كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1639 - وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان



                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن الفراء رد هذا القول بأن مثل ذلك لا يجوز، إلا إذا تقدمه استثناء آخر، فيكون الثاني عطفا عليه، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1640 - ما بالمدينة دار غير واحدة     دار الخليفة إلا دار مروانا



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا رأي الفراء ، وأما غيره فيزعم أن "إلا" تكون عاطفة بمعنى الواو من غير شرط، وقد تقدم تحقيق هذا في قوله: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين .

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور قرأ: "خطأ" مهموزا بوزن "نبإ"، والزهري: "خطأ" بوزن "عصا"، وفيها تخريجان، أحدهما: أنه حذف لام الكلمة تخفيفا، كما حذفوا لام "دم، ويد، وأخ" وبابها. والثاني: أنه خفف الهمزة بإبدالها ألفا، فالتقت مع [ ص: 71 ] التنوين، فحذفت لالتقاء الساكنين، كما يفعل ذلك بسائر المقصور، والحسن قرأ: "خطأ" بوزن "سماء".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فتحرير الفاء جواب الشرط، أو زائدة في الخبر إن كانت "من" بمعنى الذي، وارتفاع "تحرير": إما على الفاعلية؛ أي: فيجب عليه تحرير، وإما على الابتدائية والخبر محذوف؛ أي: فعليه تحرير، أو بالعكس؛ أي: فالواجب تحرير. والدية في الأصل مصدر، ثم أطلق على المال المأخوذ في القتل؛ ولذلك قال: "مسلمة إلى أهله"، والفعل لا يسلم بل الأعيان، تقول: ودى يدي دية ووديا، كوشى يشي شية، فحذفت فاء الكلمة، ونظيره في الصحيح اللام "زنة، وعدة". و "إلى أهله" متعلق بـ "مسلمة"، تقول: سلمت إليه كذا، ويجوز أن يكون صفة لـ "مسلمة"، وفيه ضعف. و "خطأ" في قوله: ومن قتل مؤمنا خطأ منصوب؛ إما على المصدر؛ أي: قتلا خطأ، وإما على أنه مصدر في موضع الحال؛ أي: ذا خطأ أو خاطئا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إلا أن يصدقوا فيه قولان، أحدهما: أنه استثناء منقطع. والثاني: أنه متصل، قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق "أن يصدقوا" وما محله ؟ قلت: تعلق بـ "عليه" أو بـ "مسلمة"، كأنه قيل: وتجب عليه الدية أو يسلمها إلا حين يتصدقون عليه، ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان، كقولهم: اجلس ما دام زيد جالسا، ويجوز أن يكون حالا من "أهله" بمعنى: إلا متصدقين. وخطأه الشيخ في هذين التخريجين، أما الأول فلأن النحويين نصوا على منع قيام "أن" وما بعدها مقام الظرف، وأن ذلك ما تختص به "ما" المصدرية، لو قلت: آتيك أن يصيح الديك؛ أي: وقت صياحه، لم يجز. وأما الثاني فنص سيبويه على منعه أيضا، قال في قول [ ص: 72 ] العرب: "أنت الرجل أن تنازل، أو أن تخاصم"؛ أي: أنت الرجل نزالا ومخاصمة: إن انتصاب هذا انتصاب المفعول من أجله؛ لأن المستقبل لا يكون حالا، فكونه منقطعا هو الصواب. وقال أبو البقاء: وقيل: هو متصل، ، والمعنى: فعليه دية في كل حال، إلا في حال التصدق عليه بها.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على "يصدقوا" بتشديد الصاد، والأصل يتصدقوا، فأدغمت التاء في الصاد. ونقل عن أبي هذا الأصل قراءة، وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوراث - وتعزى للحسن وأبي عبد الرحمن -: "تصدقوا" بتاء الخطاب، والأصل: تتصدقوا بتاءين، فأدغمت الثانية. وقرئ: "تصدقوا" بتاء الخطاب وتخفيف الصاد، وهي كالتي قبلها، إلا أن تخفيف هذه بحذف إحدى التاءين: الأولى أو الثانية على خلاف في ذلك، وتخفيف الأولى بالإدغام.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فمن لم يجد مفعوله محذوف؛ أي: فمن لم يجد رقبة، وهي بمعنى وجدان الضال، فلذلك تعدت لواحد. وقوله: فصيام شهرين ارتفاعه على أحد الأوجه المذكورة في قوله: فتحرير رقبة وقد مر. أي: فعليه صيام، أو فيجب عليه صيام، أو فواجبه صيام. قال أبو البقاء: ويجوز في غير القرآن النصب على "فليصم صوم شهرين". وفيه نظر؛ لأن الاستعمال المعروف في ذلك أن يقال: صمت شهرين ويومين، ولا يقولون: صمت صوم - ولا صيام - شهرين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "توبة" في نصبه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله، تقديره: شرع ذلك توبة منه. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون العامل [ ص: 73 ] "صوم" إلا على حذف مضاف؛ أي: لوقوع توبة أو لحصول توبة، يعني: أنه إنما احتاج إلى تقدير ذلك المضاف، ولم يقل: إن العامل هو الصيام؛ لأنه اختل شرط من شروط نصبه؛ لأن فاعل الصيام غير فاعل التوبة. الثاني: أنها منصوبة على المصدر؛ أي: رجوعا منه إلى التسهيل، حيث نقلكم من الأثقل إلى الأخف، أو توبة منه؛ أي: قبولا منه، من تاب عليه إذا قبل توبته، فالتقدير: تاب عليكم توبة. الثالث: أنها منصوبة على الحال، ولكن على حذف مضاف تقديره: فعليه كذا حال كونه صاحب توبة، ولا يجوز ذلك من غير تقدير هذا المضاف؛ لأنك لو قلت: فعليه صيام شهرين تائبا من الله، لم يجز. "ومن الله" في محل نصب؛ لأنه صفة لـ "توبة"، فيتعلق بمحذوف.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية